النهار

أين يذهب التّحليل الآن؟
غسان زقطان
المصدر: النهار العربي
في الحي الذي أعيش فيه غرب رام الله صعد الناس الى أسطح المنازل وهم يتابعون عشرات الأضواء الصغيرة التي تتحرك في اسراب بطيئة وهي تتجه جنوبا فوق القدس وغربا نحو خط الساحل، بينما تلتمع انفجارات القبة الحديدية وهي تحاول ملاحقتها.
أين يذهب التّحليل الآن؟
الصواريخ الايرانية فوق الضفة الغربية
A+   A-
ليس من السهل قراءة الواقع في الإقليم من وضع الحركة، إذ من الصعب تتبع مساراته وهو يتدحرج نحو مساحات غامضة وغير مطروقة، ولن تكون ممكنة الاستعانة بأدوات الماضي حين كان الواقع مكشوفاً والأشياء مستقرة في مساحاتها مع اختراقات مدروسة وتحت السيطرة، تماماً مثل خريطة مدرسية معلقة على الباب، الآن يبدو كل شيء مختلفاً ومتحركاً، ليس ثمة حقائق ومسارات، فقط احتمالات متسرعة تتلاحق تصنعها أحداث لم تكن محسوبة، بينما الخريطة على الباب لم تعد تتحدث.
 
سيبدو هذا محاولة لوصف المشهد في الإقليم من داخل فلسطين المحتلة، حيث يصل كل شيء إلى هنا ويدخل مباشرة في نسيج الحياة.
هكذا مرت "المسيّرات" الإيرانية في سماء الضفة الغربية بعد منتصف ليلة الأحد الماضي. في وصف منظر السماء تلك الليلة يمكن استعارة تشبيه طيار ياباني بقي عالقاً في الذاكرة، وهو يصف، في فيلم وثائقي عن الحرب العالمية الثانية، الأسراب اليابانية التي طارت نحو "بيرل هاربر":
"كان المشهد مثل غيمة من اليراعات المضيئة"، يقول الطيار في وصف يذكّر بمطالع قصائد الهايكو.
 
في الحي الذي أعيش فيه غرب رام الله صعد الناس إلى أسطح المنازل وهم يتابعون عشرات الأضواء الصغيرة التي تتحرك في أسراب بطيئة وهي تتجه جنوباً فوق القدس وغرباً نحو خط الساحل، بينما تلتمع انفجارات القبة الحديدية وهي تحاول ملاحقتها.
 
غير بعيد، في حي الإرسال حيث يعيش الرئيس الفلسطيني محمود عباس قريباً من مكتبه في مبنى "المقاطعة"، كان يمكن مشاهدة المسيّرات الإيرانية أيضاً ومتابعة المشهد من النوافذ والأسطح.
يعرف الرئيس الفلسطيني الآن أن ثمة ما تحطم، ويسمع بوضوح صوت تفكك مفاصل ومسننات "المعادلة" التي أنشأ حولها زمنه السياسي، حيث أقام خيمة انتظار طويلة حكمت سياسته وحركته وقراراته لعقود طويلة.
ويدرك بجلاء أن الإيرانيين وصلوا.
 
تخلخلت "المعادلة" القديمة التي حفظ طرقها ومداخلها ورموزها، ولم تستقر بعد مكونات "المعادلة" الجديدة التي ستحكم المنطقة لسنوات طويلة قادمة. الفراغ الذي نشأ الآن ويواصل تمدده، المسافة الخطرة التي تتشكل بتسارع تبدو مخيفة ومفتوحة على كل الاحتمالات، وخيمة الرئيس تبدو معزولة خارج الانتظار والوقت.
 
لا يمكن اعتبار الوضع الفلسطيني، في واقعه الحالي واصطفافاته القائمة، مثالياً أو مؤهلاً للحصول على مقعد حقيقي في الزمن المتشكل، رغم أن الفلسطينيين استطاعوا عبر تكاليف باهظة الخروج من الحفرة التي دفعوا نحوها في العقود الثلاثة الأخيرة. وعلى غير ما يعتقد كثيرون ممن لا تزال تقودهم الإشارات القديمة التي انتهت صلاحيتها، ستشكل أي حرب إقليمية واسعة ضربة لمنجزهم الذي قام على هذه الأكلاف.

سياسة الانتظار والجلوس تحت الشجرة تصبح في مثل هذا الشرط أكثر ضرراً، ولم تعد مجدية سياسات تعويم "الوحدة" وإعادة ترتيب البيت الداخلي، على قاعدة الحد الأدنى المشترك، والتذاكي السياسي وصناعة الانتظار بضاعة مثمرة.
 
لا أحد مؤهل لخوض الحرب الكبيرة، ولكن الجميع يندفع نحو الحافة، كما لو أن قوة الفوضى وحدها هي الإرادة الوحيدة المبصرة، الإيرانيون يدركون أنها قفزة في الفراغ قد تجردهم من نفوذهم الذي رسخوه عبر شبكة الميليشيات الممتدة من صعدة حتى الخط الأزرق على حدود الجنوب اللبناني. الإسرائيليون يدركون، رغم هياج الفاشية ونزعة الانتقام، أنهم أقل بكثير وأضعف بكثير مما اعتقدوا، وأن المنطقة أكثر قوة مما ذهب بهم الظن. فيما الإقليم كاملاً يندفع ويتعثر منذ السابع من تشرين الأول (أكتوبر)، مثل عربة متهالكة في العتمة خارج السيطرة، من دون ضوء أو مقدمات أو إشارات، وخارج مدى الأدوات المتداولة.
 
يبدو المكان فارغاً تماماً من "الواقع" الذي استقر طويلاً وأنشأ معادلات ثابتة ومتفقاً حولها شكلت دائماً مرجعيات مأمونة للتحليل. بينما الواقع الجديد لم يتهيأ بعد. لم يعد ممكناً العودة إلى واقع لم يعد موجوداً.
أين يذهب التحليل الآن؟

اقرأ في النهار Premium