يبدو جليًّا أنّ البيت الأبيض وعد إسرائيل بأن يدفع لها الثمن الذي طلبته حتى تكتفي برد رمزي على وابل الصورايخ والمسيّرات الذي كانت إيران قد شنته عليها ليل السبت-الأحد الماضي.
وكما حاكت طهران هجومًا "مبهرًا ظاهريًّا" على إسرائيل لا تنتج عنه "خسائر مذلة" من شأنها التسبب باندلاع حرب مباشرة بين "الكيان المؤقت" و"نظام الملالي"، عملت الولايات المتحدة الأميركية على إقناع تل أبيب بأن تهندس ردًا "مسالمًا" لا يخربط حسابات الحيلولة دون وقوع الحرب!
في البداية، ظهرت إسرائيل، عبر بيانات وزراء حكومة الحرب المفوّض إليهم أمر الرد على الهجوم الإيراني، كما لو كانت تقاوم الرغبة الأميركية، مستفيدة من تيّاراتها المتشددة، وذلك في محاولة منها لرفع الثمن الذي تتطلّع الى أن تتقاضاه، لقاء "الموافقة".
كانت الحكومة الإسرائيلية تدرك، منذ لحظة انقضاضها، في الأول من نيسان ( أبريل) الجاري على القنصلية الإيرانية في دمشق حيث قتلت قيادة "فيلق القدس" في كل من لبنان وسوريا وفلسطين، أنّ البيت الأبيض يحصر نفسه داخل معادلة واضحة: ندافع عن إسرائيل ولكن لا نخوض حربًا معها.
وهذه المعادلة لا يطبقها البيت الأبيض على إسرائيل فحسب بل سبق أن طبقها على نفسه أيضًا، فهو تراجع عن خطط عقابية ضد إيران وأذرعها في العراق، بعد استهداف القاعدة الأميركية على الحدود الأردنية- السورية- العراقية، بمجرّد أن تعهدت "كتائب حزب الله العراقي" بتجميد كل الهجومات على القواعد الأميركية في المنطقة.
وتنطلق المعادلة الأميركية من توجه أميركي واضح: تحاشي التورط في أي حرب، أقلّه حتى انتهاء الإنتخابات الرئاسيّة.
ويزايد كل من الرئيس جو بايدن ومنافسه دونالد ترامب، في قدرة كل منهما، على تجنيب بلادهما التورط في حرب جديدة.
وعليه، وفيما انطلق وابل الصواريخ والمسيّرات من إيران، حتى بدأت الحكومة الإسرائيلية تطلب ثمن عدم الرد: هي وافقت البيت الأبيض على عدم شنّ هجوم مضاد متزامن، ولكنّها أبقت مسألة الرد لاحقًا قيد البحث.
في اليوم التالي، كانت مطالب عدة على الطاولة: توسيع قاعدة العقوبات الغربية على إيران، على خلفية صواريخها ومسيّراتها وبرنامجها النووي، تزويد إسرائيل بما تحتاج إليه من أسلحة وذخائر لإبقاء احتياطها الإستراتيجي آمنًا، معالجة ملف "حماس" في مدينة رفح في قطاع غزة، وتوفير الدعم اللازم لما تراه إسرائيل نافعًا في التعامل مع "حزب الله" على الحدود مع لبنان، من أجل إعادة خمسين ألف نازح من شمال إسرائيل، منع إعطاء دولة فلسطين حق العضوية الكاملة في الأمم المتحدة، ورفع مستوى الضغوط على قطر من أجل تشديد نهجها مع "حماس" في ملف استعادة الرهائن الإسرائيليين.
كانت هذه المطالب التي رفعتها إسرائيل بمثابة البديل عن أيّ هجوم مؤذٍ ضد إيران التي إن لم يكن متاحًا إضعاف أذرعها في المنطقة، وهي التي تتولّى إلحاق الأذية بإسرائيل، فحينها لا بدّ من أن تعطى إسرائيل الضوء الأخضر ل"ضرب قلب الأخطبوط".
ونشطت الدبلوماسية الأميركية والغربية على خط إسرائيل، فأعادت، بعد برودة لافتة، الحرارة الى العلاقات معها، وتمّ تحميل إيران مسؤولية التصعيد في المنطقة على خلفية هجوم جاء في الواقع ردًا على استهداف قنصليتها في دمشق، وتسارع رفع منسوب العقوبات ضد برامج طهران العسكرية، وسلك موضوع المساعدة المالية لإسرائيل طريقه نحو الإقرار في الكونغرس الأميركي، ووافق جو بايدن على مطالب تصدير أسلحة طلبتها إسرائيل بقيمة مليار دولار أميركي، ونشط البحث في الحل الممكن لمدينة رفح في قطاع غزة، وتصدى الفيتو الأميركي لعضوية فلسطين الكاملة في الأمم المتحدة، وأُدخل ملف "حزب الله" في "الحقبة الدبلوماسية" الحاسمة بالإتفاق بين واشنطن وباريس وتل أبيب.
ولم يكن تخصيص الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون ثلاث ساعات كاملة من برنامجه للملف اللبناني، حيث استقبل رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي وقائد الجيش اللبناني العماد جوزاف عون، منفصلًا عن المسعى الدبلوماسي الأخير لتجنيب لبنان حرب جديدة مع إسرائيل.
ووفق ما قاله مصدر فرنسي رفيع المستوى، فإنّ "العاجل الوحيد" الذي استدعى هذا الدخول الفرنسي القوي على الخط اللبناني هو ملف الجنوب، وليس أي ملف آخر، إذ إنّ الملف الرئاسي كان يحتاج الى وجود رمزي لجان إيف لودريان "الغائب"، فيما تحتاج الأجوبة عن ملف النزوح السوري إلى بروكسل إذ لا تستطيع باريس أن تقدمها.
وأشار هذا المصدر الى أنّه، على الرغم من حرص الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون على تأكيد صلته الخاصة بالرئيس نجيب ميقاتي، إلّا أنّ "بيت القصيد" كان اللقاء مع قائد الجيش اللبناني، بطريقة لا تثير الحساسيّات في ظل التنافس على قصر بعبدا!
بمطلق الأحوال، إنّ إسرائيل بطريقة هندستها الرد على الهجوم الإيراني تتطلع الى قبض ثمن غال، فهي، في الواقع، لم تُعطِ، أعداءها، مادة دعائية ضدها، بحيث مكنت الإيرانيين من إغراقها بهجوم ساخر، مجانًا.
وفي حال لم تحصل الحكومة الإسرائيلية على ما تريد فهي يمكنها أن تُبقي ملف الرد على إيران مفتوحًا، بحيث تحوّل هجوم ليل الخميس- السبت الى مناورة حيّة، تعينها على تنفيذ هجوم قوي في وقت لاحق.
ولذلك، لا يفترض التعاطي مع عدم إقرار الحكومة الإسرائيليّة رسميًّا بمسؤوليتها عن الهجوم الأخير على أصفهان إلّا على أساس مواصلة الإحتفاظ بحقها في الرد المناسب إذا لم تحصل على السعر المناسب!