في اليوم نفسه الذي أعلنت فيه الولايات المتحدة الأميركية موافقتها على سحب أكثر من 1000 جندي أميركي من النيجر في الأشهر المقبلة، دعت تشاد واشنطن إلى سحب قواتها من قاعدة عسكرية، كانت سابقاً تضم جنوداً فرنسيين، في العاصمة أنجمينا.
القرار النيجري الذي أعلنه نائب وزير الخارجية الاميركي كيرت كامبل خلال اجتماعات في واشنطن مع رئيس وزراء النيجر علي زين، يأتي بعد خلاف حاد على التوجه الأمني الجديد للنيجر تجاه روسيا وإيران. وكانت السلطات النيجرية قد أشارت في وقت سابق إلى رغبتها في كسر اتفاقية التعاون العسكري مع الولايات المتحدة، وهو القرار الذي يأتي على خلفية التوترات المتزايدة. والحقيقة أن النيجر أعربت عن عدم رضاها عن موقف الولايات المتحدة إزاء الحكومة العسكرية الحالية في البلاد.
وجاء فشل مفاوضات تجديد الاتفاق بعد اندلاع تظاهرات حاشدة في العاصمة نيامي حيث احتج آلاف الأشخاص ضد الوجود العسكري الأميركي. كما جاء هذا العداء العلني بعد وقت قصير من وصول المعدات العسكرية والمدربين الروس إلى النيجر، في إشارة إلى التحول الأمني نحو موسكو. وفي الوقت نفسه، لا يزال مستقبل القاعدة الجوية الأميركية في صحراء النيجر، والتي تبلغ تكلفتها 110 ملايين دولار، غير مؤكد.
هذه الضربة الإستراتيجية التي تتلقاها واشنطن تأتي بعد ضربات متلاحقة تلقتها فرنسا خلال العامين الماضيين. وهي موجة تراجع، من المتوقع أن تتوسع في دول المنطقة، شأنها في ذلك، شأن الحالة الفرنسية. في كانون الثاني (يناير) الماضي، قام وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن بجولة استمرت أسبوعاً على الساحل الغربي لأفريقيا من أجل الحفاظ على نفوذ الولايات المتحدة في قارة تشتد فيها المنافسة من بكين وموسكو، في حين يخيم عدم الاستقرار في المنطقة. إلا أن ما يحدث اليوم، يكشف عن فشل كل المساعي لإنقاذ الموقف. ففي الوقت الذي غرقت فيه واشنطن في الحرب الأوكرانية، كانت روسيا، ورغم أنها طرف في الحرب، تحارب على نحو موازٍ على جبهات الظل في إفريقيا والشرق الأوسط وأميركا اللاتينية.
في الوثيقة التي تحمل عنوان "الاستراتيجية الأميركية تجاه أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى" المنشورة في آب (أغسطس) 2022 ، توضح واشنطن بالتفصيل أهدافها الأربعة للسنوات الخمس المقبلة في أفريقيا، وهي: تعزيز المجتمعات المفتوحة وتوفير الديموقراطية والأمن بشأن الفرص الاقتصادية ودعم الحفاظ على المناخ والتكيف معه والتحول العادل للطاقة؛ تهدف هذه السياسة ذات الشعارات الإنسانية عملياً إلى إحباط التقدم الصيني في القارة الأفريقية. وفي الواقع، فهي تؤكد أن بكين تتصرف في أفريقيا باعتبارها "ساحة لتحدي النظام الدولي القائم على القواعد، وتعزيز مصالحها التجارية والجيوسياسية الصارمة (...) وإضعاف علاقات الولايات المتحدة مع الشعوب والحكومات الأفريقية". وبالمعنى نفسه، في مواجهة تفكيك الأسطورة الفرنسية الأميركية في أفريقيا والاستراتيجية المعلوماتية القوية التي تنفذها روسيا، تُظهر الولايات المتحدة رغبتها في مواجهة تطور التموضع الاستراتيجي للروس في أفريقيا.
علاوة على ذلك، تؤكد الوثيقة أن روسيا "تعتبر المنطقة (إفريقيا) بيئة متساهلة للشركات العسكرية شبه الحكومية والشركات العسكرية الخاصة، ما يؤدي في كثير من الأحيان إلى خلق حالة من عدم الاستقرار للحصول على ميزة استراتيجية ومالية".
يتم تحديد التضليل باعتباره أحد ركائز الاستراتيجية الروسية في أفريقيا. وبهذه الروح انعقدت القمة الأميركية الأفريقية الثانية في الفترة من 13 إلى 15 كانون الاول (ديسمبر) 2022. وكان الهدف الرئيسي للقمة المذكورة بلا شك هو إعادة احتلال أميركا لأفريقيا. وبعد ثلاثة أيام من المناقشات، أسفرت هذه القمة عن 55 مليار دولار من التعاون العام على مدى 3 سنوات و15 مليار دولار من الاتفاقيات الخاصة بين الولايات المتحدة والدول الأفريقية.
لكن العقيدة الأميركية تجاه إفريقيا لم تكن ذات جدوى في مواجهة السياسات الروسية التي خدمتها السياقات التاريخية والثقافية، بشكل واضح في مواجهة الغرب، الذي مازال في الوعي الإفريقي يمثل المستعمر القديم. وهي الفكرة الأساسية التي اشتغل عليها سيرغي كاراغانوف، في عقيدته للسياسة الخارجية الروسية عام 2023. منذ اندلاع الحرب الأوكرانية والانفصال الهائل عن الغرب، أعادت روسيا توجيه نفسها نحو "الجنوب العالمي"، وهو ما يسمح لها بالتحايل على العزلة الغربية والعقوبات التي تصاحبها - ولكن أيضاً بمواصلة سياسات التنويع الإيديولوجي. لقد أصبح "الجنوب العالمي" في الواقع موضوع كل اهتمام السياسة الخارجية الروسية والمسرح الجديد للتنافس الأيديولوجي مع الغرب بلهجات تذكرنا بتلك التي كانت سائدة في سنوات الحرب الباردة عندما واجهت الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي كلاً منهما، وغيرهما بالوكالة في أميريكا اللاتينية وأفريقيا.
يرى سيرغي كاراغانوف أن الأغلبية العالمية ليست معادية للغرب، على الرغم من أن احتياجاتها تتعارض بشكل موضوعي مع المصالح الغربية، كما صاغتها النخب العالمية الحالية. فدول "الجنوب والشرق" حلفاء طبيعيون لروسيا في إضفاء الطابع الديموقراطي على النظام العالمي، والقضاء على الممارسات الاستعمارية الجديدة وأدوات الضغط والابتزاز للنظامين السياسي والنقدي العالمي، والمصادر الخارجية الرئيسية لتطور روسيا وإمكانات التأثير الروسي على البيئة الدولية تقع خارج العالم الغربي حيث تصبح الأغلبية العالمية قيمة مستقلة، والعمل معها يتطلب أساليب دبلوماسية الشبكة، وإنشاء تحالفات ظرفية مفتوحة للمصالح. وهذا هو الاتجاه الذي يصبح مفتاح الدبلوماسية الروسية حيث يلعب التناقض الموضوعي بين أطروحة التعددية القطبية/تسييس النظام العالمي الناشئ وبين القدرة على ضمان المساواة بين جميع الدول، دوراً أساسياً، من أجل تسهيل دور روسيا، لذلك من الضروري إضفاء الطابع الإقليمي على السياسة العالمية والتنمية العالمية، ونقل النشاط العالمي إلى مستوى التجمعات الإقليمية.
فالصراع الرئيسي في العالم الحديث هو التناقض بين رغبة الغرب بقيادة الولايات المتحدة في الحفاظ على هيمنته التي دامت خمسة قرون والتي مكنته من إعادة توزيع ثروات العالم لصالحه و فرض ثقافته وأنظمته السياسية على العالم، ومن ناحية أخرى، رغبة الدول غير الغربية في الوصول إلى السيادة الكاملة، غير المقيدة بالعقائد والمؤسسات والأوامر الغربية.
فروسيا اليوم تلعب دوراً رئيسياً في عمليات "نزع الطابع الغربي" عن العالم، ورغم أنها قد تكون قوة ثانوية في جوانب معينة - المساهمة في الاقتصاد العالمي، والديموغرافيا - إلا أنها تظل مركزية في صوغ عالم ما بعد الغرب وما بعد الليبرالية.