لم يكن العراقيون محظوظين بسقوط نظام صدام حسين الذي عبث بمصائرهم عبر حوالى ربع قرن (1979 ــ 2003). فالغزو الأميركي الذي أدّى إلى احتلال بلادهم وتحطيم دولتهم كان بمثابة تمهيد لوقوع العراق تحت الهيمنة الإيرانية لأمد طويل. وإذا ما كان الجدل حول التحرير الأميركي فارغاً من معنى فإنّ التبعية إلى إيران أثقلت العراق بمحتوى ساذج يكشف عن بلاهة حامليه. وفي الحالين كان الوعي والانتماء الوطنيان غائبين. لقد جنّدت الحملة الأميركية عشرات الإعلاميين العراقيين من أجل تطبيع ما نتج منها من مساوئ، أما الإيرانيون فإنّهم وجدوا أحزاباً وميليشيات جاهزة في خدمتهم. وليس مستغرباً أن يختلف الأميركيون والإيرانيون على كل شيء إلّا في المسألة العراقية، فإنّهما متفقان على أدق التفاصيل. لم يكن الانسحاب الأميركي الذي حدث عام 2011 إلّا جزء من المخطط الذي كانت إيران قد وضعت إمكاناتها في خدمته قبل الغزو الأميركي.
كانت الولايات المتحدة مطمئنة إلى أنّ مصير العراق لن يفلت من يدها إذا ما تمكنت إيران من الإمساك بالحكم هناك. أما إيران فقد كانت مطمئنة إلى أنّ حصتها في العراق ستكون مضمونة بعدما سمحت الولايات المتحدة لميليشياتها بالدخول إلى الأراضي العراقية منذ الأيام الأولى للاحتلال. فهل كان سقوط العراق تحت الهيمنة الإيرانية واحداً من أهداف الحملة الأميركية، أم أنّ الولايات المتحدة وجدت نفسها مضطرة للتسليم بالاجتياح الإيراني بسبب اضطراب مشروعها وعدم وضوح الرؤية؟
لم نعدهم بالاستقرار
ركّز الرئيس الأميركي الأسبق جورج بوش الإبن، وهو داعية غزو العراق الأول، على شخصنة الصراع مع العراق، فكان تجريد صدام حسين من سلطته واحداً من أهم أهداف الحرب التي شنتها الولايات المتحدة على العراق. ولأنّ بوش كان يدرك أنّ كذبة وزير خارجيته كولن باول المتعلقة بأسلحة الدمار الشامل والتي أطلقها أمام مجلس الأمن في شباط (فبراير) 2003 لا بدّ من أن تفتضح، فقد كان يردّد أنّ العالم سيكون أفضل من غير صدام حسين. ذلك القول لا يهب العراقيون حجة عليه، فهو لم يقل إنّ العراق سيكون أفضل. وحين سُئلت كوندليزا رايس عن الفوضى التي انتشرت في العراق بعد الاحتلال قالت "لم نعدهم بالاستقرار".
أما ما قاله الأميركيون عن الديموقراطية فيظل كلاماً نظرياً يمكن أن يُقال في المناسبات العامة ولا يلزم قائله بشيء. واقعياً فإنّ سلطة الاحتلال لم تكتف بإسقاط النظام السياسي الذي كان قائماً، بل قامت بإلغاء مؤسسات الدولة العراقية وفي مقدمتها المؤسستان العسكرية والأمنية، بعد أن أوقفت العمل بالقانون العراقي. لقد وجد المحتل الأميركي أنّ الدولة العراقية بشكلها القديم لا يمكن أن يديرها مجلس الحكم الذي تمّ تأسيسه ليكون القاعدة التي يقوم عليها النظام الطائفي الذي اتخذ في ما بعد طابعاً حزبياً. وإذا ما كان نظام التعددية الحزبية قد حل محل النظام الشمولي بصيغته الرئاسية فإنّ المحاصصة صنعت مشروع دولة، كانت للأحزاب الشيعية الموالية لإيران الحصة الكبرى فيه. كانت إيران في انتظار اعتراف الأميركيين بفشلهم لكي تفصح عن مشروعها علناً.
ما أراده الأميركيون فعلوه
حين انسحبت القوات الأميركية عام 2011 بقرار من الرئيس باراك أوباما لم يكن ذلك نهاية لمرحلة الاحتلال. كان العراق قد وقّع عام 2008 اتفاقية أمنية مع الولايات المتحدة ذات أفق استراتيجي. سمحت تلك الاتفاقية للقوات الأميركية بالإبقاء على قواعدها العسكرية خارج المدن. بعد زيارته الأخيرة للولايات المتحدة قال رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني: "ما دامت الولايات المتحدة لا تملك عناصر قتالية في العراق لا يمكننا المطالية بغلق قواعدها العسكرية" وفي ذلك يردّ السوداني على مطالبات الميليشيات الموالية لإيران برحيل القوات الأجنبية من العراق، وهو في حقيقته مطلب إيراني. تصريح السوداني هو رسالة أكّدت الولايات المتحدة من خلالها أنّ قواتها لن تغادر العراق، رغم أنّ تلك القوات تعرّضت في قواعدها للقصف الذي كان مصدره معروفاً، وهو ما كشفت عنه الردود الأميركية من خلال الأهداف التي دمّرتها. من المؤكّد أنّ الولايات المتحدة قد استخفت بمصير العراق حين سلّمت الحكم فيه لحزب طائفي هو حزب "الدعوة" التابع لإيران بحجة المحاصصة، غير أنّها لم تستخف بمصالحها، فأبقت على قواعد عسكرية لها بموجب اتفاق أمني هو ما ربحته من غزوها الذي بُني على كذبة، سعت أحزاب طائفية عراقية إلى الاستفادة منها في تكريس الوصاية الإيرانية باعتبارها مظلة لما يُسمّى بـ"المقاومة الإسلامية". لقد هرب الأميركيون من العراق. تلك جملة لا تقول الحقيقة. فما أرادوا القيام به في العراق فعلوه. وليس هناك أسوأ من إيران لتتولّى أموره.
ساحة لتصفية الحسابات
إضافة إلى ما جنته من أرباح كانت الدعامة الرئيسة لإنقاذ اقتصادها المنهار بسبب العقوبات الأميركية، فإنّ إيران نجحت في تحويل العراق من خلال هيمنتها السياسية عليه إلى واحد من أهم جبهاتها الأمامية في حربها المفتوحة ضدّ الولايات المتحدة. وليس الحشد الشعبي، وهو مجموعة الميليشيات التابعة للحرس الثوري، سوى ذراع إيرانية تُستعمل بحسب توقيت لا علاقة له بأي موقف وطني صارت السيادة مجرد غطاء له. في المقابل فإنّ إقتصاد العراق الذي صار ريعياً بالكامل لا يزال في قبضة الولايات المتحدة. وهو ما يعني أنّ أي حكومة عراقية لا تملك أن تتخذ قراراً سيادياً من غير الدخول إلى المنطقة الحساسة االتي يتقاسمها عدوان شرسان، ليس لها القدرة على الاطلاع على نوع ومستوى وأسباب خصومتهما. تلك حقيقة لا يستوي معها حلم العراقيين في دفع الضرر عن بلادهم التي تحولت إلى ساحة لتصفية الحسابات.