لا يمكن الفصل بين أحوال العرب والفوضى التي تفشت في مجتمعات عربية زارها الربيع العربي، فأسباب الضعف التي تبدو ظاهرة الآن كاشفة عن جذور كانت تنمو تحت الأرض، فأتت شظايا ذلك الربيع لتفجر فيها عوامل النمو والتضخم والدمار. ومن يتابع الشجار في وسائل الإعلام العربية عموماً والمصرية خصوصاً حول أسباب التطرف، يدرك أن المجتمعات العربية، ومصر نموذجاً، تعاني التشدد أكثر من الإرهاب، فالإرهاب ضرب أيضاً دولاً ومدناً غربية لكنه لم يهدد بسقوطها، أما التشدد الفكري في المجتمعات العربية فتسبب في انقسام دول بعدما اقتصر في بداياته على مظاهر شكلية للفصل بين الذكور والإناث، أو فرضه زياً محدداً على المرأة، ولغة في الكلام وسلوكاً في التصرف.
انظر إلى الخطاب السياسي للتنظيمات المتأسلمة وتزييفها الواقع وترحيبها بالعمالة لأي جهة أو دولة أو جهاز استخبارات ما دام الهدف إسقاط أنظمة الحكم ليصل الإسلاميون إلى السلطة والنفوذ، لتكتشف أن تلك التنظيمات ظلت على مدى عقود تدفعنا إلى السير في طريق الفتن الفوضى حتى نأكل أنفسنا بأنفسنا!
بدأ التشدد ينخر في الأساسات المجتمعية منذ عقود، والآن عشش فيها واستقر، ويحتاج إلى مقاومته فكرياً، لكن بجهود دؤوبة ومستمرة، وبأفكار جريئة قد تصل إلى حد الصدمة. لا فائدة من التابوهات الجاهزة عن "المواجهة الفكرية للتطرف والإرهاب"، لأن الإرهابي ببساطة يستقي أفكاره من مراجع فقهية هي بالنسبة إليه الدين، وما عداها "كفر مُباح". السؤال الذي يطرح نفسه على دعاة "المواجهة الفكرية" للمتطرفين، هو: "من يتولى مسألة تصحيح المفاهيم في عقولهم؟"، والرد القاطع على الأرجح سيكون المؤسسات الدينية الرسمية، وفي مصر يقولون الأزهر بما يمثله من منصة اعتدال، أو دار الإفتاء بما تملكه من إمكانات ضخمة، لكن المعروف أن شيخ الأزهر نفسه، وكذلك المفتي، في شرع هؤلاء المتطرفين "مرتدان". تلك هي قناعاتهم التي لا سبيل لتغييرها، ومن ثم وجب التصدي أمنياً لكل متشدد تحول إلى متطرف ثم أتته الفرصة لحمل السلاح ومحاربة الدولة باسم الدين فصار إرهابياً، والنهاية تكون دائماً معروفة، فإما يُقتل في المواجهات مع أجهزة الأمن، أو يُلقى القبض عليه ويسجن بأحكام قضائية رادعة إذا ثبتت التهم بحقه.
الدليل الأكيد إلى رجاحة هذا التفريق بين التطرف أو التشدد والإرهاب وسبل مواجهتها هو المراجعات الفقهية التي أجراها تنظيم "الجماعة الإسلامية" في مصر أواخر العقد الأخير من القرن الماضي، والتي أُطلق على أساسها مئات السجناء الذين كشفت التطورات السياسية التي عاشتها مصر بعدما ضربها الربيع العربي أن هؤلاء أيدوا تلك المراجعات من دون قناعات بها، وثباتهم على أفكارهم الإرهابية، إلا قليلاً، فما إن سنحت لهم الفرصة للإفصاح عمّا يبطنون بعد سقوط النظام والضعف الذي اعترى الأجهزة الأمنية، إلا ورفعوا أعلام "القاعدة" وصور أسامة بن لادن في ميدان التحرير في قلب القاهرة، ولما استقر لهم الأمر بوصول جماعة "الإخوان المسلمين" إلى الحكم بدأ الحديث عن أخونة الدولة ولو بقوة السلاح، فجرى الاعتداء على الناس في الشوارع إلى حد القتل بدعوى مخالفتهم أحكام الشريعة، وسمعنا للمرة الأولى في مصر عن ضرورة التعامل بشكل مختلف مع "المجاهدين في سيناء وسلاحهم"، وبعد عام من تجربة مريرة انتهت بإطاحة الإخوان من الحكم وعزل محمد مرسي، لم يبحث هؤلاء عن خيار آخر لمواجهة ما اعتبروه تجنياً على التيار الإسلامي، إلا رفع السلاح مجدداً في مواجهة سلطات الدولة، وتأكد أن من مارس القتل باسم الدين ولو قبل عقود لا يمكن أن يتخلى عن إرهابه حتى وإن نُصّب حاكماً.
صناعة التشدد أو التطرف، تنتشر بآليات كثيرة لا تخلو منها مدارسنا أو مناهجنا أو حتى محيطنا الأسري والاجتماعي، فضلاً عن ظروف اقتصادية قد تدفع بعض الضعاف إلى الإحباط فيكونون صيداً سهلاً للمتشددين، إضافة إلى المتغير المستجد المتمثل في وسائل التواصل الاجتماعي التي منحت أصحاب الفكر المتشدد منبراً مجانياً واسع الانتشار لترويج أفكارهم وسط الشباب، فإن اطلعوا على تلك الأفكار وكتموها في نفوسهم واختمرت في عقولهم من دون نقاش علمي قائم على المعرفة مع متخصصين، فقد يتحولون إلى مشاريع متطرفين، ثم يأتي دور التنظيمات المتطرفة التي تتاجر بالدين وتستخدم قضايا العرب الداخلية ومعضلة فلسطين لتتلقفهم وتعبث بعقولهم وتدفعهم إلى إعادة تدوير التطرف وتغييب عقول الناس، واغتيالهم معنوياً إذا تصدوا لها، وفعلياً إذا ما حالوا دون إسقاط أوطانهم، ومن ثم وجب التفكير في طريقة أو آلية لاستكشاف ما يدور في تلك المنتديات المتشددة وضرب تلك الأفكار في مهدها، وإنقاذ المتدينين أو الباحثين عن التدين، قبل غيرهم، من هذا التشدد المقيت.