أن يطرح الرئيس التونسي قيس سعيد ـ مثلما فعل أخيراً ـ مسألة تسرّب آفة استهلاك المخدرات وترويجها إلى المدارس كقضية أمن قومي، فهو يعبر عن انشغال الكثير من التونسيين، مجتمعاً وسلطة، بمصير أبنائهم أمام جملة من التحديات والمخاطر المترابطة تعتبر قضية المخدرات إحداها.
لم يعد الاهتمام بهذه القضية حكراً على متابعي أخبار الجريمة في البلاد منذ تحولت المخدرات إلى خطر داهم يهدد سلامة الناشئة ومستقبلها. تضاعف استهلاكها بين تلاميذ المدارس - بحسب الأرقام الرسمية - خمس مرات تقريباً بين 2013 و2023 (إذ ارتفعت نسب الاستهلاك من 1,3 إلى 8,9 في المئة خلال تلك الفترة). بل إن إحدى المنظمات غير الحكومية تقول إن ما لا يقل عن 10 في المئة من الأطفال دون سن الثالثة عشرة وثلث المراهقين بين 15 و17 سنة يقرّون بأنهم تعاطوا المخدرات على الأقل مرة واحدة في حياتهم.
كيف وصلت المخدرات إلى الشارع والأماكن التي يرتادها الأطفال والمراهقون، بما في ذلك المعاهد والمدارس؟
أولى الإجابات هي أن المخدرات أضحت متوافرة في معظم الأماكن وليست المؤسسات التربوية بمنأى عن ذلك.
وقد نشر المعهد الوطني للصحة (مؤسسة حكومية) السنة الماضية نتائج استطلاع أظهرت أن أكثر من 16 في المئة من تلاميذ المدارس يجدون سهولة في اقتناء مادة القنب الهندي مثلاً من مروّجي المخدرات. وفي المجتمع الواسع زاد استهلاك هذه المادة التي يتعارف التونسيون على تسميتها "بالزطلة" حتى اكتظت السجون بالشبان المُدانين بتعاطيها.
الرئيس سعيد نفسه أقر بأن "المخدرات أصبحت تستهلك حتى داخل المؤسسات التربوية على مرأى ومسمع من الجميع". وهو لم يفش سراً بكلامه. المربون كلهم يدركون ذلك. وتلاميذ المدارس الابتدائية ما انفكوا يدهشون المستمعين إليهم بمدى معرفتهم بأنواع المخدرات ومفعولها.
ولكنه إذا كان العرض متوفراً فما الذي يخلق الطلب على المواد المخدرة لدى الأطفال والمراهقين؟
للإجابة أبعاد كثيرة، أولها البعد الاقتصادي. ففي مجتمع يشكو فيه من البطالة أكثر من 40 في المئة من الشباب بين سني 15 و24 عاماً، يزداد بطبيعة الحال عدد الراغبين في الإتجار بالمخدرات بحثاً عن الربح السهل.
وفي أجواء الأزمة الاقتصادية يصبح هناك كذلك استعداد لدى العديد من الأطفال والشباب اليافعين للإصغاء إلى من يوهمهم بأنه قادر على أن يسبغ على حياتهم المعطلة معنى، حتى إن كان ذلك باستهلاك مادة مخدرة يرحلون بواسطتها وقتياً عن الواقع، وإن كان في ذلك مجازفة بسلامتهم وتعريضاً لهم لخطر تقضية سنوات من حياتهم في السجن.
الاستعداد نفسه للمخاطرة يدفع الشباب اليائس إلى محاولة عبور المتوسط على متن قوارب متهالكة أو حتى الالتحاق بتنظيمات متطرفة تدعي رفع راية الدين، إن غفلت عنهم أعين الأمن وسهت عنهم عائلاتهم.
ساهمت في خلق هذا الوضع الجديد التحولات التي شهدها المجتمع التونسي خلال العقود الأخيرة ونتج منها اهتراء النسيج العائلي التقليدي الذي كان يضمن انسجاماً أكبر بين الأجيال.
البعض يتحدث عن تفكك هذا النسيج تماماً بعدما توسعت المسافة بين أفراد العائلة الواحدة. والأسباب لذلك متعددة، من بينها انشغال الوالدين بتحصيل الرزق وعدم تخصيصهما الوقت الكافي من أجل الاستماع إلى مشاغل الأبناء ومتابعة اهتماماتهم.
وقد فاقمت تكنولوجيات الاتصال الحديثة، ومن بينها بالخصوص الإنترنت، هذه القطيعة.
ما انفك التونسيون يكتشفون كل يوم المخاطر الخفية للإنترنت، وهي مخاطر عرفتها مجتمعات أخرى من قبل، لكنهم كانوا يجهلونها أو هم يفضلون تجاهلها.
الإنترنت بوابة نحو توسيع أفق المعرفة والتواصل عبر الحدود. ولكنها أيضاً منطقة مليئة بالمطبات لم تنتبه لها ولمعالجتها كما ينبغي معظم الحكومات المتعاقبة في تونس ولا منظمات المجتمع المدني. وتجلى ذلك خلال الأيام الأخيرة في تونس في ما تداولته وسائل الإعلام والمنصات الإلكترونية من شجب وانشغال عميق لتعرض عدد من الأطفال للاستغلال الجنسي وللابتزاز عبر الإنترنت من قبل شخص مجهول قد يكون مقيماً في الخارج. وسلطت القضية الضوء على تهاون الأولياء في مراقبة ما يطالعه أبناؤهم وبناتهم على الإنترنت بواسطة هواتفهم المحمولة وحواسيبهم. ولكن رغم جهود السلطات وحملاتها التوعوية، يُخشى أن تخفت الضجة الحالية بسرعة ويعود الوالدان والأبناء كل إلى ركنه.
عمّقت ثورة الإنترنت نزوع الأجيال الصاعدة إلى تغليب العلاقة مع الأقران والأصدقاء على علاقتهم بوالديهم. ونتيجة لذلك أصبحت سلوكيات الأطفال والشبان رهينة تأثير الحلقة القريبة منهم من حيث السن عوضاً عن الوالدين أو المربين في المدرسة. ويقول الخبراء إن تبادل المعطيات والآراء داخل هذه الحلقة العمرية شبه المغلقة يلعب دوراً لا يمكن الاستهانة به في الترويج لسلوكيات خطرة مثل استهلاك المخدرات والتهوين من مضارها مثل العنف والإجرام، وفي ترسيخ منظومة قيم تتعارض مع القيم السائدة وحتى القوانين.
البعض ينحي باللوم أيضاً على محتوى الإنتاجات الدرامية التي تبثها القنوات التلفزيونية، متهمين أصحاب هذه الأعمال بالمساهمة في تطبيع الناشئة مع ظواهر إجرامية، من بينها ظاهرة تعاطي المخدرات. ويرد المنتجون بأنه لا ذنب لهم إن حاكت إنتاجاتهم الواقع بهنّاته. من المحتمل أن يتواصل الجدل حول هذا الموضوع الذي لم ينل حظه بعد من التحليل الرصين والمسؤول رغم خطورة تبعاته.
كل المخاطر التي تحيط بالناشئة في تونس ليست في الواقع بمعزل عن هنات النظام التعليمي الحالي. فلما ينقطع عن التعليم قبل الأوان كل سنة حوالي 100 ألف تلميذ يتكون في شوارع المدن التونسية وأريافها جمهور واسع من الأطفال والشبان مستعد للانسياق وراء تيارات الانحراف والزيغ عن القانون.
والأخطر من ذلك، ربما، هو أن النظام التعليمي لا يزال منقطعاً عن القضايا والتحديات الجديدة المتولدة من تطور المجتمع. المفروض أن تلعب المدارس والمعاهد دوراً محورياً في توعية الناشئة بمزايا الإنترنت ومخاطرها، وأن توضّح مضار تعاطي المخدرات وبقية السلوكيات التي تمثل خطراً على الناشئة، بخاصة منها المسكوت عنها في المجتمع.
من الأكيد أن لانتشار المخدرات داخل المجتمع التونسي علاقة بتوسع أنشطة التهريب بأنواعها إقليمياً ودولياً. وسوف تحتاج الدولة مستقبلاً لتعزيز تنسيقها مع جيرانها وشركائها، إضافة إلى تكثيف جهودها للتصدي لهذه الآفة بغض النظر عما إذا كانت البلاد ممر عبور أو سوقاً تريد مافيات التهريب غزوه.
ومن الأكيد أيضاً أن شبكات الإتجار بالمخدرات انتهازية تسعى لاستغلال أي هشاشة تراها في المجتمعات والمنظومات الأمنية لتحقيق ما تسعى إليه من الأرباح، وإن كان مفعولها قاتلاً ومدمراً لمستقبل الأجيال الصاعدة وحاضرها.
مسؤولية التصدي لهذا الخطر لا تتحملها الدولة وحدها، وإن كان دورها أساسياً في معالجة الأزمة الاقتصادية ومشكلة البطالة ومراجعة الأنظمة التربوية وتكثيف جهودها الأمنية من أجل تجفيف منابع الظاهرة.
لكن المسؤولية يتحملها المجتمع بأسره، بما فيه منظمات المجتمع المدني وكل الأطراف المؤثرين في سلوكيات الأسرة.
يكفي الأجيال القادمة أنها سوف ترث من الأجيال الحالية أعباء الديون الحكومية المتراكمة، ويجب ألا ترث أيضاً آفات تنخر نسيج المجتمع وتعطّل حلم أطفاله وشبابه بمستقبل أفضل.