كفقاعة صابون تظهر على فترات متقطعة مشكلة النازحين السوريين إلى لبنان في سماء سياسة البلد الملبدة بكل أنواع الغيوم السوداء. يقع حادث أمني أو يأتي زائر دولي أو تغرق سفينة مهاجرين انطلقت من مكان ما على الشاطئ اللبناني، أو توقف مجموعة من المتسللين السوريين عبر الحدود في الشمال أو البقاع، فتطلق الفقاعة التي يتسلى بها الوسط السياسي لفترة من الزمن لتعود الأمور وتسكن بانتظار حدث جديد يطلق فقاعة جديدة ما تلبث أن "تفقع" هي الأخرى، لتعود المشكلة إلى مربعها الذي لن تخرج منه إلا بتطور كبير وكبير جداً وهو ما ليس منظوراً في المستقبل القريب.
انعقد في القصر الحكومي اجتماع وزاري قضائي أمني، الثلثاء، ترأسه رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي ووزراء وقادة قضائيون وأمنيون للبحث في فقاعة أطلقت قبل أيام تتعلق بترحيل سجناء سوريين ضاقت بهم السجون اللبنانية الضيقة أصلاً بنزلائها اللبنانيين الذين ترتفع أعدادهم أيضاً بسبب تزايد الجرائم والجنح، علماً أن عدد المطلوبين والمجرمين الذين يسرحون ويمرحون لا تتسع له سجون.
كغيره من عشرات الاجتماعات السابقة (واللاحقة)، خرج الاجتماع بالقول إن المجتمعين بحثوا في "إمكان" ترحيل السجناء السوريين. واكتشف المجتمعون أن ترحيل السجناء لا يمكن أن يتم إلا بالتواصل مع الدولة السورية، وقد كلف المدير العام للأمن العام متابعة الموضوع.
"هذا الأمر يتطلب بالتأكيد دراسة كل ملف والوقوف على حجمه، لأن الموضوع لا يتم من خلال عملية واحدة، بل على العكس، فنحن ننطلق من القوانين اللبنانية، أي نميز بين الذي لديه إقامة شرعية والذي ليست لديه هذه الإقامة، ومن الطبيعي أننا لا نستطيع معاملة الفريقين بالطريقة ذاتها، فالنزوح السوري لم ولن يتوقف، وبالتالي علينا تنظيم هذا النزوح وفقاً للقوانين اللبنانية المرعية الإجراء"، هذا التصريح لوزير العدل هنري خوري بعد الاجتماع قد يختصر تعقيدات مشكلة المساجين السوريين، وهي جزئية صغيرة جداً من الملف الكبير: النزوح السوري.
يشي الاجتماع والتصريح بأن مسألة ترحيل المساجين ستدخل في طي اللجان والاتصالات، وتطوى بعدما كان الحديث قد انطلق بقوة قبل أيام من ترحيلهم إلى بلدهم أو إلى بلد ثالث، وهو كلام يطلق على عواهنه من المسؤولين اللبنانيين الذين يعرفون جيداً أن مشكلة النزوح السوري أكبر من قدرة لبنان على حلها، لا بل أكبر من قدرة لبنان وسوريا معاً. وحتى لو نفذ قرار الترحيل فسيكون التنفيذ جزئياً ولن يعدو كونه نقطة في لجة ضخمة.
أطلقت الفقاعة الأخيرة بعد جريمة قتل المسؤول في حزب "القوات اللبنانية" باسكال سليمان في جبيل بعد خطفه بهدف السرقة كما أعلن، ثم رمي جثته داخل الأراضي السورية. الخاطفون الذين كشفت التحقيقات هويتهم سوريون لم يعلن حتى الآن إذا كانت لديهم شراكات لبنانية، وهو أمر وارد، المهم أن الحادث طرح قضية النزوح السوري بقوة تزامناً مع حركة قبرصية باتجاه لبنان للضغط في اتجاه منع مغادرة النازحين السوريين (ومعهم لبنانيون) إلى قبرص القريبة ومنها إلى أوروبا. القضية تتحرك لكنها كحلقة الدبكة الفولكلورية تدور في أرضها، يتحرك راقصو الرأس ثم تعود الحلقة إلى انتظامها.
يعرف الجميع أن المليوني سوري أو أكثر في لبنان هم مشكلة لبنانية ومشكلة سورية ومشكلة دولية أيضاً، ولكل طرف من أطراف هذه المشكلة رؤية تختلف عن رؤية الطرف الآخر، إن لم تكن متعارضة كلياً معها. الدول الغربية تعمل لمنعهم من مغادرة لبنان إليها بعدما استوعبت من أرادت أن تستوعبه منهم، لا سيما الكادرات المهنية، وهي تشدد على ما تسميه العودة الطوعية الآمنة، وسوريا تفرض شروطاً معقدة على الذين لا تزال تعتبرهم "إرهابيين" وهي لا تريد معارضين من جماعة "الإخوان المسلمين" أو غيرها من التنظيمات الإسلامية، والنازحون أنفسهم لا يرغبون في العودة فيما يأتي آخرون من بلدهم الذي لم يخرج نهائياً بعد من تداعيات الحرب الطويلة المدمرة هرباً من أوضاع اقتصادية صعبة جداً وانهيار شبه كامل للخدمات الأساسية وانعدام فرص العمل في ظل الحصار الذي تتعرض له سوريا من الغرب نفسه.
لبنان نفسه لا يملك رؤية موحدة تجاه هذا الملف الحساس الذي تتداخل فيه السياسة بالطائفية بضرورات الأمن الوطني والقومي والممانع. صحيح أن الجميع يعلنون أنهم مع عودة النازحين السوريين إلى بلادهم التي استتب الأمن في أجزاء واسعة منها، لكن لكل طرف رؤيته الخاصة لهذه العودة، بين مطالب بترحيلهم بالقوة وداع إلى تكفل المجتمع الدولي عودتهم وضمان استمرار المساعدات التي يقدمها لهم في لبنان في سوريا، ومناد بضمان أمنهم وسلامتهم إذا قرروا العودة الطوعية..
بالعودة إلى الإشكالات الأمنية المتورط فيها نازحون سوريون في مناطق متعددة، يأتي الأمر أيضاً في سياق التفلت الأمني الذي يشهده البلد مع انتشار السلاح بين أيدي الناس وتزايد أعمال الجريمة بكل أنواعها، من السلب إلى الخطف إلى القتل والتهديد وعجز القوى الأمنية عن ملاحقة كل المرتكبين الذين يستظل عدد كبير منهم فيء القوى النافذة في البلد.
المشكلة هي هنا، في غياب الدولة ذات الهيبة والقدرة. في بلد لا دولة فيه يرتكب النازح وغير النازح جريمته بكل بساطة.
أما مشكلة النزوح فأكبر من هذه الدولة بكثير. إعادتهم شبه مستحيلة في هذه الظروف، وربما كان من الأفضل التفكير في إدارة وجودهم إدارة أفضل كما فعل الأردن وتفعل تركيا حيث هناك دولة.