تتمدد قوى اليمين المتشدد في أوروبا منذ ثمانينات القرن العشرين، فتمسك بالسلطة هنا وتقبض على خيوط الحكم هناك، حتى من دون أن تشارك في الوزارة. وصارت مصدر خطر وجودي على الأحزاب الليبرالية الديموقراطية، ليس فقط لأنها قد تخطف بعض شعبيتها، بل أيضاً لكونها تعمد إلى العبث في بنيتها الأيديولوجية وتعيد رسم معالمها. بيد أن التناقضات والصراعات تتفشى في علاقات هذه القوى بعضها ببعض، ما يقلل من فعاليتها المفترضة، ويوحي بأن خصومها يبالغون بتضخيم نفوذه.
غيّر المتطرفون خريطة العلاقات السياسية ضمن البلد الواحد كما حملوا أحزاباً رئيسية على تعديل برامجها. وتمكن بعض أصحاب المواهب الشعبوية، مثل البريطاني نايجل فراج الذي لم يدخل البرلمان من التلاعب بالحمض النووي لحزب المحافظين الحاكم ودفعه على طريق التشدد اليميني، ما أدى إلى هبوط أسهمه وإحداث شروخ فيه. فمحاولة الحزب استيعاب خطر المتطرفين حينما وظف بعض سياساتهم، تمخضت عن نتائج معاكسة.
تتكرر هذه التجربة مع الائتلاف الألماني الحاكم من جهة، وحزب "البديل" من جهة أخرى. وبدلاً من أن تستميل حكومة المستشار أولاف شولتس بعض ناخبي هذا الحزب المتشدد إليها حينما بدأت تتبنى مواقف مشابهة له حول الهجرة، فقد قويت شوكته. ويُخشى أن ينتهي الأمر بالائتلاف إلى مزيد من التراجع وتقديم التنازل إثر التنازل للمتطرفين، كما هي حال حزب المحافظين منذ عشر سنوات، وحزب "الحرية والديموقراطية" الهولندي في ظل زعيمه السابق مارك روته.
وما أسباب سطوة اليمين الشعبوي وتناميه؟
إن ضعف الديموقراطيات الليبرالية يتصدر العوامل المؤدية إلى تفاقم خطر أحزاب أقصى اليمين. لم تستطع هذه الأنظمة "الوسطية" أن تقدم حلولاً مقنعة للقضايا الضاغطة حالياً كالهجرة والعلاقة مع الإسلام وتكلفة المعيشة وأوكرانيا. أما أداؤها الاقتصادي فمتقلب ولم يتمكن في أحسن الأحوال (أيام توني بلير مثلاً في بريطانيا) من أن يذهب بالبلاد إلى شاطئ الأمان.
كما أن إخفاقات الحكومات "المعتدلة"، سواء اكتست بلون يساري أم كانت صبغتها الغالبة يمينية، تصب في مصلحة المتطرفين. ومع أن تجربة الشعبويين المبكرة في الحكم (النمسا) كانت مخيبة للأمل، فقد استطاعوا مع الزمن اكتساب مهارات جعلت فيكتور أوربان يبقى رئيساً للحكومة الهنغارية منذ 2014. تخبط هو وأمثاله، لكنهم لم يكونوا أسوأ من خصومهم على المستوى الاقتصادي والاجتماعي.
ثمة سبب آخر لصعودهم، وهو كيفية تعامل الاتحاد الأوروبي معهم. لم يضيّع أوربان فرصة لمحاولة عرقلة عمل بروكسل توجيه بوصلتها بما يتعلق بأوكرانيا في الوجهة التي يريدها فلاديمير بوتين الرئيس الروسي. مع ذلك، اتبع الاتحاد والكتلة الأكبر (حزب الشعب الأوروبي) في برلمانه، أسلوباً رخواً للغاية في التعامل معه. وهذا جعله يتمادى أكثر.
وتعود نجاحاتهم في بعض وجوهها إلى أنهم بدأوا محاولاتهم لتغيير أوروبا منذ زمن غير قصير. ولم يتمكن خيرت فليدرز زعيم حزب "من أجل الحرية" المثير للجدل من إحراز المركز الأول في الانتخابات الهولندية الأخيرة بين ليلة وضحاها، بل وصل بعد مسيرة بدأت فعلياً قبل سنوات من إبرامه اتفاق تعاون مع الحكومة للمرة الأولى في 2010.
في هذا السياق تبرز مارين لوبان زعيمة اليمين المتطرف الفرنسي التي عملت طويلاً على تشذيب حزبها "التجمع الوطني" وتطويره للتقليل من الصور التي أدت إلى شيطنته طويلاً. ولم تنل ليونتها النسبية رضا اليمين الأوروبي المتشدد عموماً. لا بل كانت مصدر جدال وصل أحياناً إلى حرب باردة مع جيورجيا ميلوني رئيسة الوزراء الإيطالية قائدة حزب "أخوة إيطاليا" من جهة، وصراع متفاقم مع "البديل" الألماني من جهة أخرى. واللافت أن توتر علاقتها مع حليفها الألماني يرجع إلى فضيحة تتعلق بعزمه على ترحيل مهاجرين، أي "الغرباء" الذين كان المتطرفون الفرنسيون مثالاً في محاربتهم!
والواقع أن هناك فروقاً جوهرية في الخيارات الاستراتيجية لأحزاب أقصى اليمين التي تشكل مجموعتين كبيرتين، الأولى تُسمى "الديموقراطية والهوية" والثانية "المحافظون والإصلاحيون الأوروبيون". أهم أحزاب الأولى "التجمع الوطني" و"البديل" و"الرابطة" الإيطالي و"الحرية" النمساوي. وهذه تؤيد الحرب على أوكرانيا على العكس من المجموعة الثانية التي تضم "أخوة إيطاليا" و"القانون والعدالة" البولندي وديموقراطيي السويد وغيرها. وهذا الخلاف يمثل العقبة الأكبر في وجه المزيد من التنسيق بين المجموعتين. وتتباينان حول أورسولا فون دير لاين التي تسعى لوبان ورفاقها إلى إزاحتها، بينما تدافع عنها ميلوني والمجموعة الثانية بحماسة.
أما حزب "فيديز" الهنغاري الذي انسحب في 2021 قبيل طرده من كتلة "حزب الشعب الأوروبي" البرلمانية، فلا يزال يغرد خارج السرب لكنه أقرب إلى مجموعة "الديموقراطية والهوية". ومع ذلك، لعب زعيمه أوربان لعبة ذكية في مؤتمر بروكسل الأخير، إذ رشح ميلوني لقيادة اليمين المتطرف، في الوقت الذي هاجم فيه "حليفتها" فون دير لاين. وتغيبت رئيسة وزراء إيطاليا ولوبان عن المؤتمر ربما لأن كلاً منهما أرادت الإيحاء بأنها أقل تشدداً مما يقال عنها عادة.
وهناك مواجهات بين أركان الحزب الواحد. مثلاً يقف أمبرتو بوسي مؤسس "رابطة الشمال" ضد قائدها الحالي ماتيو سالفيني مطالباً بإزاحته، ويورام فان كلافيرين الذي كان اليد اليمنى لفيلدرز المعادي للإسلام انشق عنه واعتنق الإسلام، خصمه الأول. كما أن أوربان يواجه حالياً "انتفاضة" يقودها ناشط كان مقرباً من حكومته.
هذا يجيز التساؤل ما إذا كانت أحزاب أقصى اليمين قادرة على الوصول إلى السلطة. لعل لوبان أوفر زعماء هذا التيار حظاً ببلوغ الهدف الكبير. وإذا كان أداؤها في الانتخابات الأوروبية في حزيران (يونيو). أفضل منه في السباق الرئاسي الأخير، فسيصبح التنبؤ بفوزها بالإليزيه أكثر واقعية.
وستؤشر نتائج هذه الانتخابات إلى آفاق نجاح المتطرفين على المستوى الوطني. فإذا لم يرفعوا حصتهم من مقاعد البرلمان كثيراً، سيستشف من ذلك أنهم لن يكونوا مؤثرين بما فيه الكفاية على المستوى الوطني ليحكموا بأنفسهم. وفي هذه الحالة سيتضح أن الحديث عن قرب تسلمهم زمام الأمور في بلدان عدة، مبالغ فيه. وسيبقون عاجزين عن الدخول في تفاهمات راسخة مع أحزاب نيو ليبرالية، كما يدل اضطراب علاقة ديموقراطيي السويد مع شركائهم في الحكم وفشل فيلدرز في تشكيل الحكومة.
لقد ابتليت هذه القوى بالتشرذم والاقتتال الداخلي. وبقدر ما يبرع قادتها في تحوير الحقائق ووضعها في قالب جذاب، بقدر ما هم ماهرون بتوريط أنفسهم بفضيحة تلو أخرى، مثل لوبان، و"البديل"، وأوربان وفيلدرز الخ... وإن كانوا فعلاً يشكلون "عملاقاً"، فهل تثبت الانتخابات الأوروبية المقبلة أنه نائم أم مشلول؟