نجح "حزب الله" في إقناع أكثرية اللبنانيّين، بمن فيهم أعتى معارضيه، بأنّه وإسرائيل لن يخوضا حرباً واسعة، بل سيبقِيان المواجهة بينهما في حدودها الراهنة، بحيث يكون الخروج عن إطارها المرسوم، مجرد "استثناء"!
هذا القناعة التي تتقاسمها أكثرية اللبنانيّين، إيجابية وسلبية في آن. هي إيجابيّة لأنّها تتيح للبنانيّين أن يضعوا جنوب نهر الليطاني وراءهم ويحاولوا أن يعيشوا طبيعياً. وهي سلبيّة، لأنّها تُلهي اللبنانيّين عن ممارسة ما يلزم من ضغوط على "حزب الله" والسلطة الساقطة بين يديه، من أجل وضع حدّ سريع للمواجهات، حتى لا تتدحرج، في لحظة "تخلٍّ" إلى حرب واسعة لا يمكن لـ"بلاد الأرز" المنهارة أن تتحمّلها، خصوصاً في ظل ضغط كبير يمارسه سكان شمال إسرائيل على حكومتهم، من أجل أن تشن حرباً طاحنة على لبنان، من شأنها أن توفّر لهم "شروط العودة والعيش الآمنين".
وبالفعل، لا يجد "حزب الله" نفسه مضطراً إلى التعاطي مع المبادرات الدوليّة الهادفة إلى احتواء التصعيد على الجبهة اللبنانية - الإسرائيلية، فهو، ظاهرياً، يترك مسألة التواصل مع المجتمع الدولي المهتم بلبنان إلى السلطات الدستورية في البلاد، ولكنّه فعلياً، ينزع من يدها القدرة على المناورة، إذ إنّ الحديث عن التهدئة يجب أن يبقى نظرياً، ما دامت الحرب في غزة مستمرة، على اعتبار أنّ "حزب الله" ملتزم بـ"وحدة الساحات" وبـ"تآزر الجبهات"، وتالياً لا خمود على جبهة لبنان إلّا بالتزامن مع الخمود على جبهة غزة.
وكادت الدول العاملة على خط لبنان وإسرائيل تكتفي بهذه المعادلة وتخفض مستوى تدخلها إلى الحد الأدنى، وتعمل بهدوء على تجهيز العدّة لمرحلة ما بعد الحرب، لجهة درس حاجات اليونيفيل والجيش اللبناني، حين تزف الساعة لإيقاظ القرار 1701 من سبات عميق دخل فيه في الثامن من تشرين الأول (أكتوبر) الماضي.
ولكنّ الإدارة الفرنسية، سرعان ما غيّرت رأيها، ووجدت نفسها معنية بإعادة تحريك دبلوماسيّتها، بعد تقييم معلوماتي أجرته أجهزة مخابراتها المختصة، بيّن أنّ ما بعد 14 نيسان (أبريل) الجاري ليس بالتأكيد كما قبله.
في ذاك اليوم شنّت إيران هجوماً بالصواريخ والمسيّرات على إسرائيل، فسارع المجتمع الدولي إلى محاولة إقناع الحكومة الإسرائيلية بعدم الرد على الهجوم، وإن وجدت نفسها ملزمة بأن ترد، فعليها أن تتبع أسلوباً لا يؤدي إلى اندلاع حرب إقليمية.
وفي أثناء التواصل الإسرائيلي مع المجتمع الدولي عموماً ومع الولايات المتحدة خصوصاً، طلبت الحصول على أثمان حتى تكتفي بـ"رد رمزي" على إيران. وكان لبنان من ضمن قائمة الأثمان المطلوبة!
وما كان واضحاً في 19 نيسان (أبريل) الجاري، أنّ إسرائيل ردّت، "رمزياً" على الهجوم الإيراني الواسع، ولكن ما بقي غامضاً، هو الثمن الكامل الذي تقاضته لقاء ذلك.
حتى تاريخه، يبدو أن قائمة الأثمان التي وضعتها الحكومة الإسرائيلية تتحقق الواحد تلو الآخر: توفير سريع لنواقص القبة الحديدية من ذخائر، إقرار مساعدة أميركية بقيمة 19 مليار دولار، موافقة ضمنية على خطة إخلاء المدنيّين من رفح تمهيداً لهجوم محتمل على هذه المدينة المكتظة في قطاع غزة، تحريك قنوات التواصل لإعادة ضخ الحياة في مسار التطبيع بين إسرائيل والسعودية بوضع وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن زيارة للرياض يوم الأحد المقبل على جدول أعماله.
ولكن ماذا عن لبنان؟
في التقييم العام، ما من حاجة ليكون لبنان استثناءً!
وبما أنّ إسرائيل تقاضت الأثمان الأكثر تعقيداً، لقاء "الرد الرمزي" على إيران، فهي لا بد من أنّها تقاضت الثمن اللبناني.
الإدارة الفرنسية التي شاركت في محاولات إقناع إسرائيل بهذا المستوى المنخفض من الرد على إيران، تعرف ذلك، ولهذا تحركت، بقوة، لإقناع لبنان بأن ينقذ نفسه من "التجربة القاسية".
الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون حمّل رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي وقائد الجيش اللبناني جوزاف عون، الرسالة العاجلة، مدعومة بتقديم ما يحتاج إليه الجيش اللبناني من مساعدات ليكون على أهبة الاستعداد للقيام بدوره في الجنوب اللبناني، ومن ثم، وبعدما تواصل هاتفياً مع رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو، طلب من وزير خارجيته ستيفان سيجورنيه أن يذهب إلى لبنان، بعد انقضاء مدة كافية لتمكين لبنان من صياغة جوابه النهائي، ونقله إلى إسرائيل.
سيجورنيه لن يزور لبنان السبت المقبل ليحصل على جواب عن المبادرة الفرنسية التي كان قد قدمها خلال زيارته الأولى، بعيد تعيينه في منصبه خلفاً لكاترين كولونا، في السادس من شباط (فبراير) الماضي، فهو سبق أن حصل على جواب "غير مجدٍ" عبر سفارة بلاده في بيروت كان قد سلّمها إياه وزير الخارجية في حكومة تصريف الأعمال عبد الله بو حبيب في منتصف آذار (مارس) الماضي.
زيارته هذه المرة، لمعرفة الجواب اللبناني على طلب ماكرون في اجتماعات الإليزيه مع ميقاتي وعون، في 19 نيسان (أبريل) الجاري، حتى لا يكون لبنان ثمناً إضافياً تتقاضاه إسرائيل لقاء "الرد الرمزي".
المؤشرات الصادرة من لبنان ليست "إيجابية". "حزب الله" الذي اطلع على الرسالة الفرنسيّة، بدل أن يخفض مستوى المواجهة صعّده إلى نطاق غير مسبوق، بحيث قصف، للمرة الأولى منذ الثامن من تشرين الأول (أكتوبر) الماضي، شمال مدينة عكا، عملاً بمبدئه الميداني، "بتوسعوا منوسّع"، في وقت أدخلت إسرائيل تغييرات عدة على نهجها الميداني، بحيث رفعت كثافة القصف إلى مستوى الحرب، في نهج تدميري كبير!
في السياسة لا حتميات، ولكن الأكيد أنّ ما بعد انتهاء عطلة الفصح اليهودي، يوم الإثنين المقبل، لن يكون، بالنسبة إلى لبنان، مثل ما قبله، إلّا إذا حقق الحراك الفرنسي معجزة النزول عن حافة الهاوية!