صدر في باريس كتاب "La tentation de Mars" (إغراء الحرب) للدكتور غسان سلامة، وزير الثقافة اللبناني السابق ومؤسس معهد العلوم الدولية في كلية العلوم السياسية الفرنسية العريقة Sciences Po، والذي تولى أيضاً مهمات دبلوماسية دولية في العراق وليبيا، ومن المتوقع صدوره بالعربية في غضون شهرين. يروي الكتاب قصة ثلث قرن من انتهاء الحرب الباردة حتى اليوم، وكيف مرت مرحلة خمس عشرة سنة أولى من الآمال ثم مرحلة الخيبة.
"النهار العربي" التقى الكاتب سلامة في منزله الباريسي في حوار عن التطورات في المنطقة وعن كتابه، أبرز ما جاء فيه أن عدداً من الجنرالات في إسرائيل يعتبر أن عملية عسكرية واسعة في لبنان ستستعيد هيبة الجيش الإسرائيلي، وأن عودة العلاقات بين السعودية وإيران هي مجرد فك اشتباك وليست تفاهماً أو تحالفاً على عدد من الأمور، وأن قصف إسرائيل القنصلية الإيرانية في دمشق أدى إلى كشف إيران مجموعة أوراقها في المنطقة بوضوح من "حزب الله" إلى الحشد الشعبي إلى الحوثيين إلى "حماس".
عن مضمون الكتاب يقول سلامة: "أعني بمرحلة الآمال هو أننا شهدنا في المرحلة الأولى من ثلث القرن أن موازنات التسلح في العالم كانت في حال انحدار، إذ رأينا أن الدولتين العظميين اتفقتا على سحب كل القوات السوفياتية من أوروبا الغربية وتوحيد ألمانيا، وعلى الحد من ترسانتهما النووية وتصغيرها إلى 4500 رأس نووي بينما كانت وصلت إلى 30 أو 40 ألفاً، وكل ذلك ترافق مع موجة ديموقراطية عبر العالم. فأوروبا الشرقية أصبحت ديموقراطية وأميركا اللاتينية تخلت عن الجنرالات، وفي أفريقيا أصبحت هناك 20 ديموقراطية، وكما يقول المفكر الكبير كانت Kant فإن الأنظمة الديموقراطية لا تشن الحروب على بعضها بعضاً، بل على غير الديموقراطية. وجاء عنصر آخر هو العولمة وفيه المزيد من الترابط الاقتصادي. هنا، كل الفكر الأوروبي في القرنين الماضيين يقول إنه كلما ترابطت الدول اقتصادياً فإمكان الحرب يتضاءل".
ويشرح سلامة: "خلال الحرب الباردة كانت كل التجارة بين الاتحاد السوفياتي وأميركا لا تزيد عن المليار دولار سنوياً، فيما اليوم حجم التجارة بين الصين وأميركا يبلغ ملياري دولار في اليوم، هذا يعطي صورة عن قوة الترابط الاقتصادي بسبب العولمة. وكان هناك عدد كبير من التيارات ثم كان نمو كبير للمنظمات الدولية، وعاد مجلس الأمن يعمل بعدما توقف لفترة 45 سنة من الحرب الباردة. مثلاً حرب تحرير الكويت في 1990 جرت تحت إشراف مجلس الأمن بـ12 قراراً واشتراك 65 دولة، وأنشئت منظمة التجارة الدولية لحل النزاعات الدولية ودخلت الصين فيها سنة 2001، كما أنشئت المحكمة الجنائية الدولية سنة 1999 في اتفاقية روما فكان الاتجاه نحو المزيد من الديموقراطية والترابط الاقتصادي وحروب أقل. لكن لسوء الحظ بدأت مرحلة ثانية بعد كل هذه العناصر الإيجابية قلبت الوضع رأساً على عقب، مثلاً عملية ضبط القوة، فبعدما كانت حرب العراق في 1990 بإشراف مجلس الأمن باشتراك 65 دولة بهدف تحرير الكويت، انعكس الأمر في 2003 عندما شنت أميركا الحرب على العراق من دون قرار من مجلس الأمن ومن دون هدف واضح. هنا بدأت الخطيئة الأصلية لعملية استخدام القوة لأنني وجدت بعدها، وكنت أتردد على العواصم المهمة، لا سيما على موسكو وعلى إسطنبول، أن عدد الدول المهمة استخرجت من حرب العراق أنه إذا كانت الدولة الأولى الولايات المتحدة في العالم التي لعبت أكبر دور في إنشاء النظام الدولي الحالي تقوم هي بنفسها بخرق القوانين التي وضعتها فلماذا ليس نحن؟ وهذا سمعته في موسكو قبل أن تغزو جورجيا في 2008 وسمعته مجدداً في موسكو قبل أن تغزو أوكرانيا 2014 وسمعته على لسان الإيرانيين وعلى لسان دول صغيرة لديها قدرة على التدخل مثل رواندا. لقد تحمس عدد كبير من الدول بعد خرق الولايات المتحدة القوانين الدولية في 2003. ثم أصيبت حركة العولمة بنكسة كبيرة من خلال الأزمات المالية الكبرى في آسيا ثم روسيا ثم المكسيك. وكلفت أهم أزمة مالية في 2008 في وول ستريت نيويورك كل مواطن أميركي الكثير، ووجدنا أن بعض الدول بدأت تتذمر من العولمة مثل الصين التي تمكنت من إخراج كل شعبها من تحت خط الفقر، بينما تسيء إلى الدول الأخرى لأنها غير قادرة على أن تدفع الرواتب البخسة التي تدفعها الشركات في الدول النامية. ثم جاءت العقوبات التي بدأت الدول الغربية تفرضها لتحد من العولمة. لذلك بدأت أكتب هذا الكتاب وأتصور أن النظام الدولي ذاهب نحو المزيد من التوتر وكنت بدأت أكتبه في أزمة كورونا بصفة المستقبل. لكن سبقتني الأحداث في أوكرانيا، خصوصاً أيضاً في الشرق الأوسط".
في الموضوع الإيراني وتبادل الضربات مع إسرائيل، يرى سلامة أن إيران "اختارت هذا الخيار منذ زمن طويل (في 1982) مع إنشاء أول تنظيم من التنظيمات غير الدولتية بإنشاء "حزب الله" بالتفاهم مع السوريين، آنذاك كان الأول، لكن بعد نجاح هذا الإنشاء وتحول "حزب الله" ورقة مهمة في يد إيران، اتجهت إلى الاستفادة من أي وضع يمكن أن تنشئ فيه شيئاً مشابهاً. حاولت في البحرين وفشلت، لكنها استمرت في تسليح المجموعات الشيعية في العراق وتمكنت من ذلك، علماً أنها أصيبت هناك بخيبة عندما اضطرت التنظيمات إلى اللجوء إلى المنطقة الكردية، وهناك حصل خلاف بين قوات برزاني وطالباني، إذ استعان برزاني بقوات صدام حسين التي دخلت إلى أربيل، وهذه التنظيمات أصيبت أيضاً بخيبة كبيرة. ثم بدأت إيران تهتم بمناطق أخرى من دون أن تنجح، إلى أن جاءت حرب 2003 في العراق التي فتحت لها أبوابها المشرعة في العراق حتى قبل الانسحاب الأميركي. الأميركيون استخفوا بالوجود الإيراني، وأذكر أنني قابلت بول بريمير مرة وقلت له إنني رأيت شباناً كثيرين مع هواتف ثريا يتمشون في شوارع النجف ولا يتكلمون العربية، فقال لي لا تهتم هذا أمر غير مهم. كان واضحاً أن الإيرانيين بدأوا بناء ميليشيات مؤيدة لهم في العراق بعد سقوط النظام. هذه الحرب غيرت صورة الشرق الأوسط بالكامل أكثر من أي حرب وجعلت إيران تستفيد من إنشاء ميليشيات لرفع شأن حلفائها الشيعة في العراق، وفي الوقت نفسه اتفقت مع سوريا على زعزعة الوجود الأميركي وعلى تحويل العراق إلى نوع من فيتنام لأميركا بتنسيق غريب وبتنفيذ ميليشيات غير شيعية من النظام العراقي السابق تم استيعابها من سوريا وإيران، وأهم شيء لم يكتب أن حرب إسقاط صدام حسين غيرت اتجاه النظام الإيراني في الداخل، بمعنى أنه قبل حرب العراق كان هناك خوف من أن تمتد الحرب الأميركية ضد إيران، وكانت هناك تجربة خاتمي ومحاولة الانفتاح على الغرب والتفاهم على الموضوع النووي، لكن بعد سقوط صدام وإهداء العراق إلى إيران تحولت إيران إلى التشدد أكثر. لذلك بعد سقوط صدام بسنتين تم انتخاب محمود أحمدي نجاد في إيران لأن المرشد رأى أن هناك فرصة ذهبية للعودة إلى تصدير الثورة الذي كان قد توقف".
لا يعطي سلامة أهمية كبرى لعودة العلاقات الدبلوماسية بين إيران والسعودية، "فما حصل في رأيي هو فك اشتباك بين البلدين وليس تحالفاً ولا تفاهماً على كثير من الأمور. الجهد الذي بذل لهذه العودة هو بالأساس عُماني ثم دخلت الصين على الخط. لا أعتقد أنه حصل تفاهم. سنة 1999 حصل تفاهم بين الدولتين في المجال النفطي أدى إلى تغيير جوهري في السوق النفطي العالمي. الآن المشكلة في مكان آخر لأن ما قامت به إسرائيل ضد قنصلية إيران في دمشق غيّر إلى حد كبير المعطيات بالنسبة إلى إيران، فقد تبين أن لدى إيران قدرة على تحريك "حزب الله" والحشد العراقي والحوثيين و"حماس" في الوقت نفسه، ما يعني أن الأوراق الإيرانية أصبحت موضوعة على الطاولة بوضوح للمرة الأولى".
عن احتمال توسيع إسرائيل حرب غزة إلى لبنان يلاحظ سلامة أن "أعضاء في مجلس الحرب الإسرائيلي هم أكثر حماسة لعملية في لبنان من نتنياهو نفسه، وهو ما لفت انتباهه منذ زيارة الرئيس الأميركي جو بايدن لإسرائيل في اليوم الرابع من الحرب، وآنذاك كان وزير الدفاع يوآف غالانت هو الذي فتح الموضوع أمام الرئيس الأميركي الذي قال له "لا تفتحوا حروباً أخرى". لكن هناك فرضية أخرى، إسرائيل خرجت من حربها في لبنان في 2006 بنتيجة غير مقنعة، فهل في إسرائيل من يدفع اليوم إلى الاستمرار في حرب الاستنزاف كبديل لحرب 2006؟ هو السؤال. لكن أريد أن أضيف أن ما يهم الجيش الإسرائيلي في غزة والضفة هو استرجاع قوته الردعية لأن هذه مشكلته الأكبر. وعندي شك في أن نرى حرباً إسرئيلية كما في 2006. هناك في إسرائيل قواعد يقوم عليها عمل الجيش وهي الثقة بالاستماع والمخابرات ثم القدرة الردعية للجيش على أن يمنع الطرف الآخر من أن يقدم على ما يقدم عليه، ثم إذا أقدم على ما قام به أن تكون لدى إسرائيل القدرة على أن تسحقه. لكن تبين في حرب 2006 وحرب 2014 مع "حماس" وفي الحرب الحالية أن هذه الحروب الثلاث أصبحت موضع شك، إذ إنهم فوجئوا ولم يردعوا ولم يحصلوا على السحق، فما يريده الجيش الإسرائيلي استعادة هيبته، ويعتقد عدد من الجنرالات الإسرائيليين أن عملية كبرى في لبنان هي الطريقة المثلى لاستعادة هيبته".