لعل الاستنتاج الذي يمكن لأي مراقب أن يخرج به من ثنايا الاجتماع التشاوري الأول الذي انعقد الاثنين في تونس، وضم ثلاثة بلدان مغاربية هي الجزائر وتونس وليبيا، هو غياب الجيو - استراتيجيا وحضور المناورات والسياسات الظرفية التي لا تتجاوز نظرتها "أرنبة الأنف".
ليس للجزائر من همّ حالياً سوى تحقيق ما تعتقد أنه تنغيص وإنهاك لجارها الغربي (المغرب)، ومحاولة إيجاد موقع قدم لصنيعتها "جبهة البوليساريو" الانفصالية في الهياكل السياسية الإقليمية والدولية، رغم أن الخناق الدبلوماسي المغربي ضاق حولها.
لا شيء في أجندة الدبلوماسية الجزائرية سوى مناكفة المغرب والإضرار بوحدة ترابه، فذاك هدف من أولى الأولويات لديها. أما الباقي من المرافعات الجزائرية بشأن بعض القضايا الإقليمية فيبقى مجرد عملية استهلاك داخلي.
إن الكرم الجزائري لا ينضب حينما يتعلق الأمر بهدف تعض عليه الجزائر بالنواجذ منذ عام 1975، ألا وهو تطويق المغرب وعزله عن امتداده الأفريقي، ووضع حصى نزاع الصحراء في حذائه إلى الأبد، حتى يظل متأخراً عن ركب التنمية. بيد أن السحر انقلب على الساحر، ومشاهد ذلك كثيرة ومتعددة.
فجأة قررت الجزائر أن تنحت في صخر المغرب العربي لتصقل كتلة ثلاثية جديدة لما اكتشفت أنها صارت معزولة ومبتورة الذراع في محيطها الإقليمي، بعدما بُترت ذاتياً ذراعها الغربية بعنف يوم 24 آب (أغسطس ) 2021 بقطعها العلاقات الدبلوماسية مع الرباط، وإغلاق أجوائها أمام الطائرات المغربية.
لقد تردت علاقات الجزائر مع جيرانها في منطقة الساحل والصحراء، بخاصة مع مالي والنيجر، في وقت حرصت فيه الرباط على الانفتاح والتقارب مع الأنظمة الجديدة في مالي وبوركينا فاسو والغابون والنيجر. ونظرت الجزائر بريبة إلى المبادرة الأطلسية المغربية التي ستمكن دول مجموعة الساحل الأفريقي (مالي والنيجر وبوركينا فاسو وتشاد) من الوصول إلى المحيط الأطلسي والدخول إليه مباشرة لتسويق منتجاتها وتحقيق تنمية شاملة لمواطنيها، وتوجست أيضاً من تقدم مشروع أنبوب الغاز (نيجيريا-المغرب) وقرب بدء تنفيذه على أرض الواقع.
إن معاداة المغرب والتربص به أصبحا عقيدة جزائرية خالصة لم تسلم منها لا كرة القدم ولا كرة اليد، ولا الزليج ولا القفطان المغربيان، واللائحة طويلة.
ولئن كان الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون قد أعلن خلال الاجتماع الثلاثي الذي التأم على هامش القمة السابعة للغاز في الجزائر ما بين 29 شباط (فبراير) و2 آذار (مارس) الماضي، أن التكتل الثلاثي لا يستهدف أي جهة، وأن الباب مفتوح أمام جميع دول المنطقة، وجرى تأكيد ذلك من خلال "التطمينات" التي أرسلها اجتماع تونس إلى نواكشوط والرباط بشأن عدم وجود نية لإقصاء أي طرف، وأن الاجتماع الثلاثي ليس موجهاً ضد أي أحد، فإن ذلك يبقى مجرد لغو دبلوماسي يخفي حقيقة نيات البعض.
إن أكبر نكتة عرفها البيان الختامي الصادر عقب انتهاء اجتماع تونس هو الدعوة إلى توحيد المواقف وتكثيف التشاور لدعم مقومات الأمن والاستقرار والنماء في المنطقة.
فعن أي أمن واستقرار يتحدث هذا البيان؟ والجزائر تموّل منذ منتصف عقد السبعينات من القرن الماضي ميليشيات مسلحة تقيم فوق أراضيها لمناكفة المغرب وزعزعة استقراره. ولم تقف عند هذا الحد بل أنشأت "دولة وهمية "داخل أراضيها لتصبح الجزائر أول بلد في العالم يتكون من جمهوريتين، فأي سوريالية يمكن أن يصادفها المرء أكثر من هذه؟
دعا البيان الختامي لاجتماع تونس أيضاً إلى الانفتاح على كل إرادة سياسية صادقة ومخلصة تتقاسم الأولويات المشتركة والبناءة ذاتها. فماذا يقصد بالإرادة السياسية الصادقة؟ هل تعني تناول المعاول لهدم وحدة تراب المغرب وإنهاك هذا البلد الذي تتمنى الجزائر محوه من الخريطة؟
تبقى النقطة المبهرة في البيان الختامي ذاته هو دعوته إلى التمسك بسيادة القرار والاحترام المتبادل، ورفض التدخل في الشؤون الداخلية للدول، هذا مع العلم أن الجزائر لا تتوانى يومياً عن الإساءة إلى سيادة المغرب على أراضيه استناداً إلى أحجية "حق تقرير المصير ". وكان آخر مشهد في هذا السياق حينما سمعت صحافيين جزائريين على شاشات تلفزيونات بلدهم يقولون إن موقف السلطات الصارم إزاء ارتداء لاعبي فريق "نهضة بركان" المغربي قميصاً عليه خريطة المغرب، هو خط أحمر يدخل ضمن السيادة الجزائرية، وهو تعبير كامن في اللاوعي الجماعي، يمنّي النفس برغبة جزائرية دفينة في الاستحواذ على صحراء المغرب بواسطة الميليشيات الانفصالية المقيمة بين ظهرانيها.
في تونس، هناك هواجس آنية أخرى، إذ يحاول الرئيس قيس سعيد البحث عن خلاص خارجي يغطي على حالة الجمود واللا أفق الذي يعرفه الوضع الداخلي لبلاده.
يبقى الهاجس الأمني إلى جانب الأزمة الاقتصادية التي تعانيها تونس هو الشغل الشاغل للرئيس سعيد، وبالتالي فإن اجتماع تونس بالنسبة إليه فرصة لضمان تعاون الجزائر وليبيا مع بلاده لجهة حماية الحدود التونسية، ومنع التدفقات الكبيرة للمهاجرين القادمين من شتى أصقاع أفريقيا.
قد يكون اجتماع تونس مناسبة للرئيس سعيد لتوجيه رسالة إلى الأوروبيين، وخاصة إلى إيطاليا مفادها أن تونس لا تتفاوض بمفردها، لا سيما في موضوع تدفق الهجرة وتداعياتها الأمنية، باعتبار أنها ضمن تكتل مغاربي. لكنه نسي أنه يعتمد على تكتل مغاربي مبتور الأطراف وهش إلى أبعد حد، ونسي أيضاً أن بلاده أجبرت على الانخراط في اصطفافات إقليمية ضاربة عرض الحائط بموقف الحياد من نزاع الصحراء الذي حرصت على التموقع فيه على امتداد عقود طويلة.
إن التكتل المغاربي الخماسي ظل منذ تأسيسه في 17 شباط (فبراير) 1989 يترنح بفعل نزاع الصحراء الذي هو صنيعة جزائرية بامتياز، إلى أن دخل في حالة موت سريري عام 2005 عقب تعذر انعقاد قمة طرابلس جراء قيام الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة عشية القمة بالإدلاء بتصريح قال فيه مخاطباً جبهة "البوليساريو" الانفصالية "لن ننساكم في قمة طرابلس"، وهو ما فهم منه أن بوتفليقة سيثير قضية الصحراء في القمة بينما كان الاتفاق ألا يتضمن جدول أعمالها هذا الموضوع.
هكذا فشلت قمة طرابلس ودخل المغرب العربي في متاهة ما زال يعيشها حتى اليوم، وقد أسرّ الزعيم الليبي الراحل العقيد معمر القذافي لوزير خارجية المغرب وقتذاك، محمد بن عيسى، كيف طعنه الرئيس عبد العزيز بوتفليقة من الخلف معتبراً ما قام به يعبر عن حقد دفين وغيرة حتى لا تنعقد هذه القمة في طرابلس.
والواقع أن بوتفليقة عوتب، حتى لا أقول وُبخ، من طرف أهل الحل والعقد في الجيش الجزائري، جراء سماحه بانعقاد قمة مغاربية في طرابلس، وانتقال رئاسة الاتحاد من الجزائر إلى ليبيا، وموافقته على حضورها، وأمام ذلك لم يجد بوتفليقة وسيلة للخروج من هذه الورطة سوى الإدلاء بذلك التصريح، وإسقاط الاتحاد المغاربي بالضربة القاضية.
تبقى ليبيا في وضع لا تُحسد عليه، اذ لا يمكنها أن تكون فاعلة في أي تكتل إقليمي ما لم تتخلص بعد من حالة الانقسام التي تنخرها. وهي حالة تختزل في استقالة المبعوث الخاص للأمين العام للأمم المتحدة عبد الله باثيلي من مهمته التي كان معروفاً مسبقاً أنها مستحيلة.
ويسود اعتقاد في طرابلس أن أي اجتماعات تشاورية ثلاثية مستقبلية يجب أن تنصبّ فقط على معالجة الإشكاليات والتحديات الأمنية المشتركة على الحدود، لا سيما أن حكومة الشرق الليبي رفضت تأسيس أي كيان سياسي جديد يقصي إحدى الدول المكوّنة للفضاء المغاربي، مؤكدة تمسكها بالاتحاد المغاربي في صيغته الخماسية، ورفض أي مبادرة لتقسيمه.
تبعاً لهذا المعطى، سارع رئيس المجلس الرئاسي الليبي محمد يونس المنفي إلى إيفاد مبعوث إلى المغرب حاملاً رسالة خطية للملك محمد السادس، وذلك في اليوم التالي لانعقاد اجتماع تونس، يؤكد فيها ضرورة تعزيز اتحاد المغرب العربي من أجل تحقيق تطلعات شعوب المنطقة نحو مزيد من الاستقرار والازدهار، والتأكيد أيضاً على الدور الفعال الذي يضطلع به المغرب لمصلحة الاندماج المغاربي.
إن ليبيا بكل مكوناتها المتصارعة، لا تنسى دور المغرب في تقريب وجهات النظر بين أطراف أزمتها، وهو الدور الذي توّج بإبرام اتفاق الصخيرات عام 2015 وتلاه اتفاقان في بوزنيقة وطنجة.
وتبعاً لذلك، فإن ليبيا تنظر إلى اجتماع تونس التشاوري الأول باعتباره اجتماعاً أمنياً خالصاً، وأنه ليس موجهاً إلى أي دولة مغاربية أخرى. كما أن غموض مآل الحوار السياسي فيها يجعل أنه ليس من مصلحتها مناكفة أي طرف مغاربي بما فيها الجزائر وتونس.
لا تنسى طرابلس كيف عملت الرباط بحماسة كبيرة على تقريب وجهات النظر بين مختلف الفرقاء الليبيين، من خلال فتح الحوار بينهم، وتوفير الأجواء السليمة لذلك، والمراهنة على أن الحل لا يمكن أن يكون إلا ليبياً وسياسياً، وأن الصعاب لا يمكن تجاوزها إلا بالحوار الهادئ، وتغليب المصالح الليبية.
قد يقول كثيرون إن أي ديناميكية وحدوية، كلية أو جزئية، يجب الترحيب بها، لكنهم نسوا أن التكتلات التي تقوم على ردود الفعل الظرفية لا تعطي نتائج باهرة، وهي مثل الشجرة اليابسة لا تعطي ثماراً، كما ينطبق عليها المثل القائل "تفرقوا أيدي سبأ"، أي تفرقوا فرقة لا اجتماع فيها.
تحاول الجزائر أن تبلي البلاء الحسن من أجل تقسيم جثة اتحاد المغرب العربي الهامدة، اعتقاداً منها أنها بتجزيء الاتحاد ستحييه من سباته الطويل، مع العلم أنها تعرف أكثر من غيرها من باقي مكونات اتحاد المغرب العربي، أين يكمن العطب؟ وكيف يمكن علاجه؟
إن السؤال المركزي الذي يظل عالقاً هو: كيف لتكتل ثلاثي منهك بالتعقيدات الداخلية والخارجية أن يحقق ما عجز عنه التكتل المغاربي الخماسي؟
ثمة حقيقة أكيدة هي أنه من دون مغرب وجزائر ليس هناك مغرب عربي، فهذا الأخير لن تقوم له قائمة من دون هذين البلدين المحوريين في شمال أفريقيا باعتبارهما الدعامة الأساسية لأي بنيان اتحادي في المنطقة.
هذا هو واقع الحال. وعلى التكتل الثلاثي ألا يصبح بديلاً من التكامل المغاربي، فالعين لا تعلو على الحاجب.