تعرف توني بلير بعيد فوزه بمقعد في مجلس العموم في 1983 إلى إسرائيل التي يعتبر الأكثر حرصاً على مصالحها بين رؤساء الوزراء البريطانيين منذ ستينات القرن الماضي. كان أحد دبلوماسيي سفارتها مكلفاً تقييم النواب الجدد خصوصاً، والعمل على "استقطاب" أفضلهم. لا يحضرني اسم هذا الدبلوماسي الذي أذكر أنه غادر لندن قبل نحو 20 سنة بعدما أسدى خدمة جُلى لبلاده حينما "اكتشف" بلير وغوردون براون الذي خلفه في رئاسة الحكومة، وصارا من أصدقائها الخُلّص منذئذ.
وفي العقدين الأخيرين أخذت السفارة تتخفف من أعباء العلاقات العامة. كثرت المهمات كما زاد عدد خصوم الدولة التي ترى نفسها "ضحية أزلية" لجرائم النازيين الأوروبيين. لذا أُسندت مهمات الدفاع عنها لجمعيات تدّعي الاستقلالية وتعمل على الأرض. واكتفت تل أبيب بالإشراف عن بعد إلا في حالات استثنائية، كمحاولة إسقاط زعيم حزب العمال السابق المؤيد للحق الفلسطيني جيرمي كوربين التي كان الدبلوماسي شاي ماسوت أحد "أبطالها". وفي 2017 انكشف تورطه في "المؤامرة"، فأُعيد إلى البلاد واعتذر السفير الإسرائيلي رسمياً للحكومة البريطانية.
وراحت هذه المجموعات تتكاثر في مجالات شتى لمحاربة كل من يتجرأ على انتقاد إسرائيل. ولم يبخل بدعم هذه المنظمات صهاينة بريطانيون. يُشار إلى أن تبني "الصهيونية" لا يقتصر على اليهود، بل هناك صهاينة مسلمون كالوزير السابق ساجد جاويد من حزب المحافظين، ومسيحيون مثل رؤساء الوزراء السابقين بلير وبوريس جونسون وليز تراس.
وفي 2014 تأسست "حملة ضد معاداة السامية" برئاسة الشاب جدعون فالتر، وهو نائب رئيس "الصندوق الوطني اليهودي" في بريطانيا الذي وصفه إيلان بابي، المؤرخ الإسرائيلي المعادي للصهيونية، بأنه "وكالة استعمارية للتطهير العرقي" متخصصة بسرقة أراضي الفلسطينيين. وسرعان ما صارت المهمة الأساسية للجمعية الجديدة هي استهداف كوربين الذي انتُخب زعيماً لحزب العمال في 2015. ونجح رئيسها بمساعدة آخرين في القضاء على زعامة كوربين بعد كثير من العمل المضني لتشويه صورته تدريجياً وإلصاق تهمة معاداة السامية وكراهية اليهود به.
ارتفعت أسهم الناشط الذي أوشكت وزيرة الداخلية السابقة سويلا برافرمان على تعيينه مستشاراً لـ"لجنة مكافحة التطرف". والطريف أنه ظهر في أعقاب التخلص من كوربين متباهياً بالنصر، كمن كان في موقع القادر على إملاء شروطه على كير ستارمر، خلف كوربين. وفعلاً، نفذ الزعيم الجديد ما طلبه منه فالتر، وقام بـ"تطهير" الحزب ممن يتحفظون على إسرائيل المتهمين عادة بـ"معاداة السامية" في غضون أشهر.
ولعل غروره دفعه إلى محاولة حظر التظاهرات المؤيدة لغزة، وهو أمر استعصى حتى الآن على "اللوبي الصهيوني" وأعضائه النافذين، بمن فيهم برافرمان. وحاك لعبة لافتعال خلاف مع عناصر الشرطة التي وقفت تحرس التظاهرة المؤيدة لغزة، وهو يرتدي القلنسوة التقليدية لكي يدّعي أنه مُنع من اقتحام المسيرة باعتباره يهودياً! ولإثبات ذلك، نشر شريطاً مجتزأً متهماً الشرطة بالعنصرية ومطالباً باستقالة المفوض راولي، الذي كانت برافرمان قد هاجمته بضراوة لأنه لم يوافق على انتهاك القانون وعدم السماح بتنظيم "مسيرات الكراهية" كما سمّتها!
إلا أن الناشط أخطأ خطأً فاحشاً بالتخطيط والتنفيذ، ربما لأن موهبته بتدبير الألاعيب ومهاجمة "الأعداء" بفعالية قد أجدبت. ولم يطل الوقت حتى افتضحت حيلته وثبت أنه تعمد عن سابق قصد وتصميم استفزاز الشرطة.
ونُزع الغطاء عن الأصابع التي حرّكته. فهو جاء لتنفيذ مسرحيته مخفوراً بعدد من الحراس الشخصيين من رجال "الموساد" سابقاً، وربما لا يزال بعضهم يعمل لمصلحة جهاز الاستخبارات الإسرائيلي. وهؤلاء من شركة أمنية تتولى حماية إسحق هيرتسوغ رئيس إسرائيل حين يزور بريطانيا، وسفيرتها في لندن. وأُعيد نشر صور سابقة لفالتر في مقدمة تظاهرات مؤيدة لإسرائيل نظمت بعد 7 تشرين الأول (أكتوبر)، إلى جانب ممثلين معروفين وشخصيات إعلامية وأعضاء في "مجلس المندوبين لليهود في بريطانيا"، ما يدل إلى مكانته حينذاك وشبكة الأصدقاء التي كان بوسعه أن يُعوِّل عليها.
والأدهى أن مهاراته في العرض والتقديم خانته بعدما تمت تعرية الخدعة التي دبرها. ففي مناظرة على شاشة "سكاي نيوز"، بدا مضطرباً وخالف أبسط قواعد اللباقة. وصار كمن يهذي حين أشار الضيف الآخر، مدير حملة التضامن مع فلسطين بن جمال، إلى أن اليهود المعارضين للحرب حاضرون بقوة في مسيرات غزة على الدوام. والحق أن بين هؤلاء مجموعة من الناجين من المحرقة النازية.
إن فشله في الإيقاع بالشرطة، هو في المحصلة فشل أساتذته الذين وجّهوه ودعموه. وهو سقوط مريع لأسلوب مواجهة الخصوم بفبركات لتكسير الهيبة وتشويه الصورة. وهذه أدوات طالما تفنن الصهاينة البريطانيون في استخدامها.
إلا أن "أسياده" تنصلوا منه بعدما سقط القناع عن وجهه. وأخذ صحافيون موالون لإسرائيل ينتقدونه، مؤكدين أن أعضاء بارزين في اللوبي الإسرائيلي كالوزيرة البليرية السابقة مارغريت هودج قد عارضوه وشجبوا أساليبه، وذلك لتبييض صفحة هذه الشخصيات. والواقع أنه لا بد من أن يكون قد عمل بإشراف هودج، التي كانت من أشرس مهاجمي كوربين في سياق الحرب التي شُنت ضده!
ولئن تخلوا عنه لحماية أنفسهم، فهم لم يكفوا عن استعمال أدواته والسعي لتحقيق هدفه. وها هم يحاولون استغلال قصته نفسها لطي صفحة المسيرات ذاتها. لذا زار أخيراً وفد من أعضاء منظمات يهودية منها "مجلس المندوبين" و"صندوق أمن المجتمع"، المفوض راولي، للاعتذار عن الفضيحة، وأيضاً استئناف الجهود الرامية إلى إلغاء مسيرات غزة!
لكن هل من الممكن بلوغ غاية عجزت الحكومة، بكل ما لديها من إمكانات، عن بلوغها؟
والأخطر هو النتائج المعاكسة التي يؤدي إليها هذا النهج، وأهمها انتشار معاداة السامية بوتيرة أسرع، فضلاً عن مزيد من التقارب، سراً في الغالب، بين الصهاينة والتيار العنصري المؤمن بتفوق العرق الأبيض والمعادي للإسلام.
لم تستطع إنسانية اليهود المناهضين للاحتلال والإبادة، وشجاعتهم، أن تجنب أتباع ديانتهم البريطانيين سموم الكراهية التي تبثها نزعة معاداة السامية الآخذة في التمدد على نطاق أوسع. ويُستبعد أن يؤدي ادعاء الصهاينة أنهم يشعرون بالقلق من مسيرات سلمية يشارك فيها اليهود بقوة، إلى إخماد نار الفتنة ومعالجة مصادر الخوف اليهودي الحقيقي التي تتمثل في العنصريين أعداء السامية وتشكيلاتهم المختلفة.
يعتقد أن انحياز الحكومة وحزب العمال المعارض إلى جانب حرب الإبادة لن يمر من دون عقاب، في بلاد يؤيد ما يزيد على 60 في المئة من ناخبيها وقف إطلاق النار فوراً وتوفير مستلزمات الحياة لغزة. والمتوقع أن تُظهر الانتخابات البلدية في 2 أيار (مايو) حجم الثمن الذي سيدفعونه.