إنها السياسة، فن الممكن أو فن الكذب، المهم أن الحرب وسيلة لا غاية، وتبقى العودة في نهاية المطاف إلى السياسة، فإن كانت حرب غزة قد صوّر البعض لها وأذاع أنها حرب نهاية الزمان، فإن نائب رئيس المكتب السياسي لحركة المقاومة الإسلامية (حماس)، خليل الحية، أعلن من اسطنبول أن "حماس" مستعدة للموافقة على هدنة طويلة، تلقي فيها أسلحتها وتتحول إلى حزب سياسي، مقابل الاعتراف بالدولة الفلسطينية المستقلة على حدود 1967.
إي إن "حماس" التي اختارت المقاومة المسلحة لا ترفض الآن مبدأ المفاوضات السياسية في إطار حل الدولتين الذي اختارته منافستها الفلسطينية (منظمة التحرير-فتح)، ما يعني أن "حماس" على مرمى حجر من الاعتراف بوجود إسرائيل!
هكذا بالنسبة إلى أصحاب القضية، وكذلك أيضاً بالنسبة إلى إيران الدولة الداعمة للقضية الفلسطينية من باب ما تقدمه لحركتي "حماس" و"الجهاد"، فإن "إيران الدولة" لن تمضي إلا في مسار يدعم مصالحها في المنطقة، فإسرائيل منافسةٌ جيوسياسية لها على مستويات سياسية واقتصادية وأمنية، قبل الحديث عن العداء الأيديولوجي أو الديني، الذي يستهوي البعض، أو يغازل أحلامهم!
ومن ثَمّ، لن تضحي إيران بمصالحها وطموحاتها القومية من أجل مغازلة هؤلاء المهووسين بالحرب المقدسة، هي تقوم باستقطابهم لكن لن تلبي أمنياتهم!
فالجمهورية الإيرانية بعدما أعلنت استراتيجيتها "وحدة ساحات المقاومة"، كشفت لنا عن حقيقة مهمة تجب عدم غفلتها، هي أن لا شيء مجانياً، وأن فصائل المقاومة هي في "مهمة إيرانية" مهما رفعت من شعارات باسم العداء لإسرائيل أو المقاومة من أجل نصرة المستضعفين أو من أجل الجهاد المقدس!
فالطائرات الأميركية والبريطانية والإسرائيلية التي تدك رؤوس العراقيين أو اليمنيين أو السوريين أو اللبنانيين وبيوتهم لم تُغضب طهران ولم تحرك صواريخها وطائراتها المسيرة من أجلهم، بل هم يجب عليهم أن يغضبوا ويصطفوا من أجل إيران التي قصفت إسرائيل قنصليتها في دمشق!
هذه الحقيقة تدفعنا إلى القناعة بأننا أمام معادلة سياسية وليست معركة حربية مقدسة، فإن كان المُغرمون بإيران قد نسوا أننا في إقليم يتشكل من دول تجمعها مصالح وحسابات توازن وتنافس، فإن إيران التي لم ترفض طاولة المفاوضات الأميركية، لم تنس ذلك، فما يشغلها ليس القضاء على إسرائيل بل أن تستعيد مكانتها الإقليمية والدولية التي فقدتها منذ أن ارتدت ثوبها الديني! وهذا ما يدفعها إلى عدم مغادرة طاولة السياسة والانحشار في خندق الحرب!
من العسكري إلى السياسي
تدل التصريحات العسكرية كافة التي تطلقها طهران إلى أنها تريد العودة مجدداً إلى لعبة "تحريك القطع"، فتغاضيها عن الضربة الانتقامية التي تلقتها من إسرائيل في أصفهان والتخفيف من آثارها، وتوالي التصريحات العسكرية التي انتقلت من معسكر الحرس الثوري (المغامرون) إلى معسكر الجيش (النظاميون)، يدل إلى أن إيران لا تريد توسيع الحرب وأنها تعلن ذلك رسمياً، وهو ما أكده القائد العام للجيش الإيراني اللواء عبد الرحيم موسوي، بقوله: "إيران لا تريد توسيع نطاق الحرب، لكنها سترد بقوة على أي اعتداء".
كذلك، فإن إيران الساعية لاستعادة مكانتها الإقليمية لا تريد العودة إلى العلاقات الخفية في محيطها الإقليمي، بل الحفاظ على ما اكتسبته من علاقات علنيّة، فردود الخارجية الإيرانية على الأردن الغاضب من عبور الصواريخ والطائرات المسيرة فوق أراضيه، دل إلى أن طهران لا تريد قطع خيط العلاقة العلنية التي نسجتها مع عمّان.
لا نتحدث عن مثالية إيرانية، بل عن عقلية براغماتية، فهذا الخيط لا يعني أن الأردن سيسلم من لعبة تحريك القطع التي تجيدها إيران، إذ إن الفصائل الشيعية المسلحة المحيطة بالأردن في العراق أو سوريا، يمكن أن تعكر مزاجه، إذا ما دفعتها إيران لاستهداف القواعد الأميركية داخل أراضيه. وهذه مسألة تدفع عمّان أيضاً للحفاظ على خيط العلاقة مع إيران لا قطعها.
طاولة المفاوضات الأميركية
أيضاً يأتي الحديث عن الرغبة المتبادلة بين واشنطن وطهران حول العودة إلى طاولة المفاوضات في إطار العودة إلى استئناف المكاسب السياسية للخروج من مأزق التصعيد العسكري. صحيح أن لا علانية لهذه المفاوضات بين الطرفين، لكن التحركات الإيرانية، بما فيها زيارة وزير الخارجية الإيراني حسين عبد اللهيان لنيويورك واتصالاته التي سبقتها بسلطنة عُمان التي لعبت دور صندوق البريد بين واشنطن وطهران، توحي بذلك.
وكذلك تصريحات الداخل، ومنها قول أمين المجلس الاستراتيجي للسياسة الخارجية عباس عراقتشي الذي لعب دوراً مؤثراً في اتفاق 2015 بين إيران ومجموعة 5+1 (أميركا وبريطانيا وفرنسا وروسيا والصين + ألمانيا)، وقوله: "حان الوقت للاستفادة من أدوات السياسة والصواريخ الدبلوماسية لتحقيق الاستقرار"، جميعها مؤشرات جادة إلى محادثات خفية بين الطرفين.
وإذا استمعنا إلى كلمة المرشد الأعلى في إيران علي خامنئي، في مناسبة أسبوع العمال، نجده يجدد التأكيد على قاعدة للمفاوضات مع الغرب، هي أن إيران لن تتنازل عن برنامجها النووي السلمي، مثلما حصل من تفكيك للبرنامج النووي لبلدان في شمال أفريقيا، ويقصد بذلك ليبيا.
كذلك دافع خامنئي عن إيجابية العقوبات الغربية في دفع إيران إلى سد احتياجاتها، بما في ذلك من الأسلحة بشكل قد أثار إعجاب أعدائها.
وما كان خامنئي يشير إلى مسألة البرنامج النووي والعقوبات لو ما كانت هناك همهمات للعودة إلى طاولة المحادثات النووية، ويريد أن يضع لها الخطوط العريضة، ومنها أن إيران ستظل تستخدم برنامجها النووي بما يجعل العالم في حيرة من أمرها، وأن لا ضمانة من النووي الإيراني سوى الاتفاق مع طهران.
أيضاً، وكما اعتدنا، فإن تحركات الوكالة الدولية للطاقة الذرية تجاه إيران تأتي منسجمة تماماً مع الأهداف الغربية، فإشارة تقرير الوكالة الدولية للذرية حول تزايد المخاوف من البرنامج النووي لإيران في ظل عدم تعاون طهران وتقديمها المزيد من الإيضاحات حول مواقعها النووية، وأيضاً تصريحات مدير الذرية الدولية، رافائيل غروسي، بأن إيران على مرمى أسابيع من امتلاك يورانيوم مخصب كافٍ لصناعة السلاح النووي، مع تأكيده في الوقت ذاته أن طهران لا تمتلك سلاحاً نووياً في الوقت الحالي، وكذلك استعداده لزيارتها.
ثم أتى تصريح نائب المتحدث باسم الخارجية الأميركية، فيدانت باتيل: "لقد قال الرئيس الأميركي بوضوح إننا نبذل كل ما في وسعنا لضمان عدم حصول إيران على سلاح نووي".
ووسط تلك التصريحات، خرج النائب في البرلمان الإيراني وعضو لجنة الأمن القومي جواد كريمي قدوسي، ليؤكد المخاوف الغربية بقوله: "إذا صدر الإذن، فإن أسبوعاً واحداً يكفي لإجراء اختبار أول قنبلة ذرية في إيران".
وكأنه تم تحريكه لدعم اللعبة الأميركية في إدارة المفاوضات مع طهران.
تلك التصريحات مؤشرات إلى أن إدارة بايدن لا تزال تراهن على المحادثات في معالجة الملف النووي مع طهران، وأن جلب إيران إلى طاولة المحادثات ليس بهدف معالجة المسألة النووية فحسب، بل يشمل ضمانة إعادة الاستقرار في المنطقة وتحييدها، ليس بعزلها، بل بدفعها نحو المصالح المشتركة.
لعبة العقوبات
كذلك، فإن العقوبات الغربية ما هي إلا أوراق ضغط أمام لعبة "تحريك القطع" التي تمارسها إيران وتقف القوى الغربية على الجانب الآخر منها، فالعقوبات الغربية، سواء من جانب الاتحاد الأوروبي أم الولايات المتحدة الأميركية، ما زالت مجزأة، لا يمكنها توجيه ضربة قاسية لإيران مثل حظر "الحرس الثوري الإيراني"، بل يمكنها فرض عقوبات على مؤسسات أو أفراد باسم قضايا حقوقية أو مطاردة التعاون العسكري بين إيران وروسيا.
إن إيران مطمئنة إلى التغاضي الأميركي عن صادرات نفطها، وتتشدق بقدرتها على العودة إلى مستويات ما قبل العقوبات، فالصين تحصل على ذلك النفط عن طريق ماليزيا، بينما واشنطن لا ترغب بالدخول في صراع مع بكين التي تواجه أزمة نمو اقتصادي وتريد التهدئة معها وهي على أعتاب انتخابات رئاسية لا ترحب باضطرابات أسعار النفط بما يؤثر على الداخل الأميركي.
كذلك، وبينما العقوبات الأميركية والأوروبية تستهدف الصواريخ والطائرات المسيرة والقدرات السيبرانية لإيران، نجد أمين مجلس أمنها القومي علي أحمديان، يذهب إلى روسيا ويشارك في اجتماع أمني دولي تحت رعاية مجلس الأمن الروسي في سان بطرسبورغ، ويوقع مع نظيره الروسي نيكولاي باتروشيف على مذكرة تفاهم أمنية.
والرسالة من طهران: أن الغرب لم يكن يسعى وراء إيران، إلا لأنها ذهبت وراء روسيا، فهي تستخدم ورقة تعاونها مع موسكو في إطار الضغط على القوى الغربية ومواجهة عقوباتها.