كل ما تملكه إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن حيال الاحتجاجات الطالبية في الجامعات الأميركية، التي تطالب بقطع العلاقات بين هذه المؤسسات التعليمية وإسرائيل، هو استخدام القوة لفضّ الاعتصامات وشنّ مزيد من حملات الاعتقال، من دون إمعان النظر في ما تحوّل إلى معركة ثقافية داخل الولايات المتحدة في صفوف الجيل الشاب.
في 17 نيسان (أبريل) الجاري، نصب طلاب متضامنون مع القضية الفلسطينية خيام اعتصام في حرم جامعة كولومبيا، مطالبين بقطع علاقات الجامعة مع مؤسسات تدعم إسرائيل، بسبب الإبادة الجماعية التي يرتكبها جيشها في حق سكان غزة منذ أكثر من 200 يوم.
الاعتصام الذي طلبت إدارة الجامعة فضّه وطلبت تدخّل الشرطة، شكّل نموذجاً استلهمته عشرات الجامعات الأخرى في أنحاء الولايات المتحدة، في تعبير مكثف عن حالة الغضب من الحرب المدّمرة على غزة، وعدم ممارسة إدارة بايدن ما يكفي من الضغوط على حكومة بنيامين نتنياهو لوقف المذبحة التي تُرتكب هناك.
ولم تتأخّر القوى المؤيّدة لإسرائيل في التحرك من أجل شيطنة الاحتجاجات الطلابية ووصمها بمعاداة السامية، على غرار ما فعل رئيس مجلس النواب مايك جونسون، الذي ألقى خطاباً نارياً دفاعاً عن إسرائيل، وهدّد الطلاب باستدعاء الحرس الوطني إن لم يفكّوا الاعتصامات.
جونسون، الذي يواجه ضغوطاً من زملائه الجمهوريين بسبب إبرامه صفقة مع الديموقراطيين أتاحت إقرار حزمة من المساعدات الخارجية لأوكرانيا بـ61 مليار دولار، ينبري اليوم لكسب ودّ جماعات الضغط الإسرائيلية المؤثرة في الولايات المتحدة، ويريد أن يثبت تأييد الحزب الجمهوري بالمطلق لإسرائيل في حربها على غزة.
وتدخّل نتنياهو طالباً بإلحاح من الحكومة الأميركية التدخّل لقمع الاحتجاجات التي وصفها بالمعادية للسامية.
والقيمة الأساسية لهذه الاحتجاجات السلمية، هي أنّها أسقطت سردية إسرائيلية عمرها عقود عن المسألة الفلسطينية والصراع العربي- الإسرائيلي عموماً. هناك اليوم جيل شاب في أرقى الجامعات الأميركية لا يصدّق خطاب حكومته وما ترويه عن المظلومية الإسرائيلية.
هذه المظلومية التي سادت في الولايات المتحدة ودول الغرب عموماً، عرّتها الإبادة التي تُرتكب في غزة. قتلت إسرائيل نحو 35 ألف فلسطيني، ثلثاهم من النساء والأطفال، ودمّرت 60 في المئة من المنازل، وتمنع إدخال المواد الإغاثية لمئات الآلاف الذين يتضورون جوعاً ويتلقّون أوامر من الجيش الإسرائيلي بالإخلاء، تارةً نحو الجنوب وثانية نحو الشمال، وتهدّد بالهجوم على رفح التي نزح إليها أكثر من مليون شخص. ولا أحد يمكنه تخيّل حجم الكارثة التي ستحصل في حال بدأت إسرائيل هجومها فعلاً على المدينة.
الاحتجاجات الطالبية كانت بمثابة يقظة من المجتمع ترفض الاستمرار في سردية "حق إسرائيل في الدفاع عن النفس"، من دون الالتفات إلى الجرائم التي ترتكبها.
وطلاب الولايات المتحدة ألهموا طلاب فرنسا وبريطانيا وألمانيا، حيث انضمّ هؤلاء إلى مطالبة حكوماتهم بوقف إرسال السلاح إلى إسرائيل وبقطع علاقات الجامعات مع الدولة العبرية.
إنّ الحراك الطالبي الأميركي والأوروبي يجعل شرعية إسرائيل الدولية أكثر تآكلاً، ويحضّ العالم على التحرك لوقف الحرب.
ويوم تحرّك طلاب جامعة كولومبيا قبل 65 عاماً تمكنوا من إضرام نار الاحتجاجات على حرب فيتنام. وفي تلك الأعوام لم تكن تملك إدارة ريتشارد نيكسون سوى الردّ برصاص الحرس الوطني. لكن في نهاية المطاف انتصر الطلاب الذين تولّوا قيادة المعارضة التي أجبرت البيت الأبيض على وقف الحرب.
اليوم، إدارة بايدن تبعث بالشرطة لفضّ الاحتجاجات الطلابية، كي لا تخسر تأييد جماعات الضغط الإسرائيلية قبل 6 أشهر من الانتخابات الرئاسية.
ومع ذلك، فإنّ جدار الصمت في الولايات المتحدة قد سقط على أيدي الطلاب مرّة أخرى، كما فعلوا في فيتنام من قبل. علّهم ينجحون هذه المرّة في إيقاف مذبحة غزة.