قدر حمزة يوسف أن يتبع السلطة بدلاً من أن يقودها. لم يتخاذل أو يتردد حين صار قبل عام ونيف أول مسلم تُناط به مهمة رئاسة حكومة بلد أوروبي. ولم يتواطأ مع الظروف الاستثنائية التي وصل من خلالها إلى قمة السلطة في اسكتلندا وأمضى سنته الأولى محكوماً بها. ومضى يدير شؤون البلاد كما لو كان نائباً لمعلمته نيكولا ستورجين التي ورث عنها الزعامة بكل ما لها وما عليها من الأحمال الثقيلة. كلما حاول بشجاعة أن يحكم هو بدلاً من أن يترك إرثها يقرر الوجهة التي ستمضي فيها اسكتلندا، كان ثمة حادث غير متوقع، قادم من الماضي، يقلب الوضع رأساً على عقب.
لم يكد يستعيد توازنه بعد انشقاقات ومناوشات داخلية توجت بخسارة مقعد برلماني انتزعه حزب العمال في اسكتلندا، ويبدأ بإعداد العدة لصناعة المزيد من القرارات الجديدة التي تساهم في تعويض "الحزب الوطني" السكتلندي عن بعض ما خسره، حتى عاد الإرث السيئ ليطرق بابه. فقد أعلنت الشرطة قبل أيام توجيه اتهام رسمي الى بيتر موريل زوج ستورجين الذي كان مديراً تنفيذياً للحزب الحاكم منذ2001 وحتر 2023. لم تكن هذه الصدمة مفاجئة مئة في المئة لأن التحقيق في ضياع 600 ألف جنيه استرليني من خزينة الحزب مستمر من أكثر من سنة وقد اشتمل سلفاً على التحقيق مع ستورجين نفسها. إلا أنه آخر ما يحتاج إليه يوسف عشية الانتخابات العامة.
أدرك الأثر الذي ستحدثه الفضيحة الجديدة على حصته من الأصوات في الانتخابات الوشيكة، فقرر أن يميل إلى اليمين، ويدغدغ الناخبين في بادرة شعبوية تماماً من خلال التخلي عن السياسات التي "لا تجلب أصواتاً". وهنا اختار أن يذهب أشواطاً جديدة على طريق تمييز نفسه عن معلمته، ويعمق الشرخ الذي كان قد أخذ يتشكل في الأشهر القليلة الماضية مع حزب"الخضر"، وهم الحلفاء الذين أبرمت معهم ستورجين "اتفاق بيوت" الذي ضمن للحزب الوطني الإسكتلندي البقاء في الحكم بعد 2021.
تخلى عن التعهد بتقليص الانبعاثات الكربونية في اسكتلندا بنسبة 75 في المئة بحلول 2030 وهو التزام لا يلقى الكثير من التأييد في الشارع ويواجه بمعارضة من جانب اليمين داخل الحزب الحاكم وخارجه. جنّ جنون "الخضر" وأخذوا يتداولون في احتمال إلغاء شراكتهم مع "الحزب الوطني"، الأمر الذي جعل يوسف يسارع إلى توجيه ضربة استباقية قاضية إليهم، حينما أقال وزيري الدولة اللذين يمثلانهم في الحكومة وألغى "اتفاق بيوت".
كانت خياراته محدودة. فإما أن يترك شركاءه يتباحثون بالخروج من الائتلاف مع كل ما ينجم عن ذلك من بلبلة وعدم استقرار سيضعفان موقفه أكثر في عيون الناخبين، وإما أن يعض على الجرج ويمضي في الطريق الصعب بشجاعة محاولاً أن يجد مخرجاً ما من هذه الورطة التي اختارته ولم يخترها.
والحق أن إلغاء الاتفاق لا يدل فقط الى شجاعته، بل الى طول نفَسه وقدرته على رسم الخطط التكتيكية بتأن. لم يتعجل تحت الضغط باتخاذ خطوة ناقصة، بل تصرف على نحو ينسجم مع توجهاته منذ أشهر. فالاتفاق مع "الخضر" أثار قدراً من السخط في أوساط الناخبين في الانتخابات الفرعية الأخيرة. فهم مسؤولون عن بعض القرارات البيئية المكلفة من جهة وعما يسمى بـ "سياسة الهوية" التي ترعى مصالح هويات معينة تتحدد على أساس العرق أو الجنس أو المذهب. وهم كانوا مسؤولون عن اتفاق "التمييز الجندري" ودعم المتحولين والمتحولات جنسياً، ما سبب الكثير من الصداع للحزب الحاكم لأنه أدى الى فضائح محرجة كما أنه يقابل بالكثير من الرفض الشعبي. وبتخلصه من الاتفاق مع "الخضر" ارتاح من سياسات جندرية يقولون إنها تقدمية لكنها لا تحظى بالرواج بين الإسكتلنديين، وكذلك من إجراءات بيئية تتصل خصوصاً بالتنقيب عن النفط والغاز الذي يرفضه "الخضر" بشدة بينما تريده الصناعات والعمال والتجار في اسكتلندا.
لكن لهذه الشجاعة ثمنا باهظا. ومن دون تأييد نواب "الخضر" السبعة، صار يوسف رئيس حكومة أقلية تتمتع بـ 63 مقعداً (من أصل128)، أي أقل مما تتطلبه الأغلبية بمقعدين. وبالتالي لن يستطيع تمرير أي قرار مالم يستطع إقناع العمال أو المحافظين أو الأحرار بتأييده، وكل من هذه الأحزاب معارض يريد رقبة الوزير الأول.
إلا أن المأزق كان أسرع مما توقع يوسف وأنصاره، ما أعفاهم من التفكير بكفية تدبر أمر إدارة البلاد كحكومة أقلية. فما إن أعلن رسمياً عن إلغاء "اتفاقية بيوت" حتى بدأت المعارضة تستعد لإخراجه من السلطة. وبينما طرح المحافظون مشروعاً لحجب الثقة عنه، قدم العمال مشروعاً أخطر عليه وعلى حزبه لأنه يقضي بتجريد الوزير الأول وحكومته من صلاحياتهما.
ولم يبق له من منقذ سوى حزب "ألبا" الذي أسسه الوزير الأول الأسبق أليكس سالموند، وله نائبة واحدة في برلمان هولروود المحلي، هي آش ريغان التي كان قد هزمها في انتخابات زعامة "الحزب الوطني" العام الماضي فانشقت بعد خسارتها بأشهر لتلتحق بحزب سالموند. ونظراً الى موقفه الهش، سعى زعيم "ألبا" إلى ابتزازه وانتزاع الثمن الأكبر لقاء تصويت ريغان لمصلحته، الأمر الذي كان سيكفي لإحباط محاولتي المعارضة إسقاطه.
وهنا، تجلى من جديد جوهر يوسف ووضعه مصلحة الحزب قبل مصلحته. رفض الاستجابة لعرض سالموند، الذي كان أول من أدخله في خضم السياسة عندما عينه مستشاراً له أواخر العقد الأول من هذا القرن. ولو رضي لكان من شأن الاتفاق المقترح أن يساعد "ألبا" على ارتقاء سلم السلطة تدريجياً على جثة "الحزب الوطني".
من ناحية ثانية، لابد أنه أدرك أن تسليم عنقه لسالموند مقابل إنقاذه من جلسة حجب الثقة، لن يضمن له البقاء في المنصب. فبعض نوابه يخالفونه الرأي حول جملة من القضايا كما أن بعضهم مهدد بعقوبة التجميد ما سيؤدي إلى منعهم من التصويت، وعندها لن يكون له مفر من مصيره المحتوم.
في المحصلة، لا شك أن يوسف ساهم في صناعة محنته. عامل منافستيه باستخفاف انعكس عليه، وريغان ذكرته بذلك حين تأكد قبل يومين أن "روحه" في يدها. وقد تخبط في علاقته مع "الخضر". جاملهم في البداية وأعلن أنه سيستأنف دفاع ستورجين الخاسر سلفاً في المحكمة عن القرار الجندري المثير للجدل الذي أملوه على الحكومة. كما وافق على الاستمرار في السياسات البيئية التي أرادوها. ثم فاجأهم بالانقلاب عليهم بين ليلة وضحاها. سيقول كثيرون إنه اضطر لهذا الانقلاب. لكن هاهو يدفع الثمن!