النهار

تونس وبداية "التهرّم الدّيموغرافي"
أسامة رمضاني  
المصدر: النهار العربي
لكن العامل الأساسي يتعلق بتطور التركيبة السكانية إذ دخلت تونس ما يوصف "ببداية التهرم الديمغرافي". ويقصد بذلك اتساع رقعة المسنين في المجتمع مقابل تقلص شريحة الشباب التي كانت طاغية بعد الاستقلال.
تونس وبداية "التهرّم الدّيموغرافي"
المجتمع التونسي يتجه نحو التهرم
A+   A-
نادراً ما أحدثت تصريحات مسؤول حكومي في تونس ضجة بين كبار السن مثل تلك التي أثارتها تصريحات مسؤول كبير حول أسباب اختلال التوازنات المالية لصناديق الضمان الاجتماعي في البلاد.

قال المسؤول إن أحد أسباب العجز المالي لهذه الصناديق هو طول مدة صرف الدولة معاشات المتقاعدين نتيجة تحسن مستوى الحياة في تونس.

تجاوزت التعليقات على هذا التصريح عبر وسائل التواصل الاجتماعي النقد إلى السخرية والتهكم وحتى التنمر.

السبب في ذلك هو أن المسؤول أوحى للجمهور الواسع من المتقاعدين (الذين يتجاوز عددهم المليون ومئتي ألف شخص) بأن الدولة تستعجل رحيلهم عن هذه الدنيا، وذلك حتى يخف الضغط عن الصناديق الاجتماعية.

لم يفش المسؤول سراً ولم يجانب الصواب في تصريحاته. لكنه لم يكن موفقاً في طريقة طرحه للإشكالية المالية التي تواجه المؤسسات الحكومية المعنية بالضمان الاجتماعي والتأمين على المرض.

لم يشفع للمسؤول أنه وصف التطور الديموغرافي الحاصل في البلاد بـ"الإيجابي"، لأن السياق العام لكلامه لم يترك مجالاً للشك في أن طول أعمار المتقاعدين يمثل "مشكلة" للمسؤولين عن الموازنة. كان ذلك الانطباع كافياً لإثارة حفيظة المتقاعدين غير الراضين أصلاً عن أوضاعهم المادية. فمنذ أسابيع قليلة فقط كان هؤلاء يتظاهرون في شوارع تونس وكانت نقابتهم تشجب في بيان لها المستوى المتدني للمعاشات، بالإضافة إلى ما وصفته بـ"تدهور المقدرة الشرائية، وارتفاع تكلفة العلاج، وفقدان أدوية الأمراض المزمنة وارتفاع الأسعار".

ليس هناك جديد في الموضوع، إذ تصطدم السلطات منذ سنوات بعجز الصناديق الاجتماعية المعنية بأنظمة التقاعد (وهو عجز يبلغ في الجملة حوالي 380 مليون دولار). وتنفق هذه الصناديق شهرياً حوالي 300 مليون دولار على جرايات المنتفعين بخدماتها، بما فيها معاشات المتقاعدين.

بالإضافة إلى الأزمة الاقتصادية وما انجر عنها من ركود في نسبة النمو وعدم كفاية الموارد المالية للدولة، يعود عجز هذه الصناديق إلى جملة من العوامل، من بينها ما يتعلق بأنماط العمل والإنتاج السائدة في الوضع الحالي، إذ يشتغل الكثيرون ضمن الاقتصاد غير النظامي الذي لا يساهم أصحابه في تمويل الصناديق الاجتماعية ولا في دفع الضرائب للدولة. يضاف إلى ذلك ارتفاع نسبة البطالة وسعي الدولة إلى تقليص عدد الموظفين الحكوميين الجدد.

لكن العامل الأساسي يتعلق بتطور التركيبة السكانية، إذ دخلت تونس ما يوصف "ببداية التهرم الديموغرافي". ويقصد بذلك اتساع رقعة المسنين في المجتمع مقابل تقلص شريحة الشباب التي كانت طاغية بعد الاستقلال.

لخّصت هذا التطور وزيرة الأسرة والمرأة والطفولة وكبار السن بالقول أخيراً إن المجتمع التونسي "تحول من مجتمع فتيّ إلى مجتمع في بداية التهرم"، مشيرة إلى أن نسبة كبار السن ستبلغ قرابة خمس السكان سنة 2036.

ومن المتوقع أن ترتفع نسبة من هم فوق الستين من 13 في المئة حالياً إلى 17 في المئة عام 2029 وأكثر من 22 في المئة سنة 2044.

أصبح مستوى متوسط الحياة يبلغ 76 عاماً، وكان لا يتعدى 50 عاماً سنة 1956 عند خروج المستعمر الفرنسي من البلاد. حصل هذا التطور نتيجة تحسن المؤشرات الصحية وانخفاض نسبة الوفيات عند الولادة مع انخفاض معدلات الإنجاب، إذ أطلق الرئيس الأول للجمهورية الحبيب بورقيبة بعد الاستقلال برنامجاً فريداً من نوعه في المنطقة لتحديد النسل، رافقته إصلاحات لتعزيز حقوق المرأة في المجتمع.

كان من نتائج هذه الإصلاحات أن توسعت نسبة مشاركة الفتاة في التعلم على قدم المساواة مع الرجل، ثم حرصها على دخول معترك الشغل. تغيرت أولويات المرأة فتأخر سن الزواج وانخفضت معدلات الإنجاب.

وتقول الأرقام الرسمية إن نسبة الخصوبة نزلت من 2,4 طفل لكل امرأة سنة 2014 إلى 1,8 سنة 2021، بينما كان معدل الإنجاب في أوائل الستينات يبلغ تقريباً سبعة أطفال.

تواصل هذا النسق خلال العشرية الأخيرة، إذ تراجع عدد الزيجات وعدد المواليد في انعكاس للمصاعب الاقتصادية في البلاد وللمخاوف التي تساور الأجيال الصاعدة تجاه تكوين أسرة، ولعدم ثقتهم بما يخبئه المستقبل.

انجرّ عن كل ذلك انخفاض نسبة النمو السكاني إلى أقل من 1 في المئة حالياً وبدء وتيرة "التهرم الديموغرافي"، بما في ذلك من تداعيات واسعة.

من الأكيد أن التطور الديموغرافي من شأنه أن يطرح أسئلة حول المدى الذي يمكن أن تستمر فيه السياسات الحالية للبلاد، والتي تنبني على غض الطرف عن هجرة الكفاءات واليد العاملة إلى الخارج كحل يفترض أنه وقتي لمشكلة البطالة وتأزم الأوضاع الاقتصادية، ولكنه يساهم في إفراغ البلاد من طاقاتها الشابة.

ورغم التحول الديموغرافي الذي يدفع التركيبة السكانية نحو "التهرم"، لا تزال البلاد عاجزة على حل معضلة البطالة وتجاوز حاجة شبابها إلى الهجرة إلى الخارج في ظل الركود الاقتصادي الذي تعيشه البلاد.

كان من المفروض أن تستثمر الدولة منذ عقود عامل وفرة اليد العاملة الفتية المتوافرة لديها، لما كانت "الطفرة الديموغرافية" في أوجها، وذلك لتسريع نسق النمو وتحقيق انطلاقتها الاقتصادية. ولكنها لم تنجح في ذلك مثلما نجحت دول مثل كوريا الجنوبية، كانت على مستوى النمو الاقتصادي نفسه الذي كانت عليه تونس عند استقلالها.

بقيت الكتلة الضخمة للشباب في المجتمع جزءاً من المشكل عوض أن تكون جزءاً من الحل. وفي نهاية العشرية الأولى من هذا القرن شكّل ارتفاع نسبة الشباب العاطل من العمل، بخاصة من أصحاب الشهادات الجامعية، أحد الأسباب الرئيسية التي أدت إلى اندلاع انتفاضات الشوارع التي أدّت بدورها إلى إطاحة نظام حكم الرئيس الراحل زين العابدين بن علي.

سوف يفرض ازدياد عدد كبار السن جملة من التحديات. وليس التململ الحالي بين صفوف المتقاعدين إلا مؤشراً واضحاً إلى ذلك.

على المدى القريب هناك حاجة إلى مراجعة منظومات التقاعد والتأمين على المرض التي لم تعد قادرة على مواكبة احتياجات فئة المسنين. ازدادت ظروف هؤلاء صعوبة نتيجة التحولات الحاصلة في المجتمع والتي أضحت تهدد جدياً تقاليد التضامن والترابط الأسري بين الأجيال.

على المدى البعيد، وسواء شكّل كبار السن عُشر السكان أو خُمسهم، فلا مفر من أن يتحول المتقاعدون في مرحلة ما، مثلما هي الحال في البلدان المتقدمة اليوم، إلى قوة اجتماعية وسياسية وانتخابية ضاغطة، وإلى طاقات بشرية قادرة على مواصلة المساهمة في مجالات الأعمال والحياة العامة، بخاصة مع حفاظ الكثير منهم رغم عامل السن على قدرتهم على النشاط والإنتاج.

عندها سوف يحتل كبار السن مكانتهم الطبيعية في استراتيجيات الدولة وتكتسي تصريحات المسؤولين تجاههم حساسية أكبر.
 

اقرأ في النهار Premium