لا يدع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون فرصة وإلا يدعو من خلالها إلى تعزيز الدفاعات الأوروبية وبناء قوة مستقلة عن الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي. لكن الجديد الذي قاله في خطاب مطول في جامعة السوربون في 24 نيسان (أبريل) المنصرم، هو الحديث عن أوروبا في بعدها الاقتصادي وكيف أنها "مطوقة" في مواجهة ما سماها قوى إقليمية كبرى، وهذا ما يمكن أن يؤدي إلى "موت أوروبا".
قبل أعوام، أطلق ماكرون مصطلح "الموت السريري" لحلف شمال الأطلسي. وتعززت نظريته هذه عقب فشل مهمة الحلف في أفغانستان، وكيف أن الولايات المتحدة اتخذت قرار الانسحاب من هناك، من دون التشاور مع بقية الدول الأعضاء في الحلف.
وكثر الحديث في فرنسا وألمانيا، حول ضرورة تأسيس قوة أوروبية مستقلة عن الناتو. وكانت المستشارة الألمانية السابقة أنغيلا ميركل من محبذي هذه الفكرة، لا سيما بعد الخلافات التي نشبت مع الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب الذي اعتبر أن الحلف قد عفّى عليه الزمن، وأن الولايات المتحدة تفكر في الانسحاب منه، وهاجم الدول الأعضاء التي لا تدفع تكاليف الحماية العسكرية الأميركية لها، أو تلك التي لا تخصص على الأقل 2 في المئة من إجمالي ناتجها القومي للأغراض العسكرية.
الهجوم الروسي على أوكرانيا في 24 شباط (فبراير) 2022، كشف عن واقع عدم قدرة أوروبا وحدها على الوقوف في مواجهة روسيا، وعن أن القارة العجوز لا تزال في حاجة إلى المظلة العسكرية الأميركية. ما قدمته أميركا من مساعدات عسكرية واقتصادية لأوكرانيا منذ أكثر من عامين يفوق أضعافاً مضاعفة ما قدمته أوروبا.
واليوم، عندما يحذر ماكرون من "الموت" في مواجهة قوى كبرى، وهو يعني الولايات المتحدة والصين تحديداً، فإنه لا يغالي أبداً. وتجديد أوروبا لنفسها شرط ضروري كي تتمكن القارة من بلوغ الموقع الذي تصبو إليه بين القوى العالمية، اقتصادياً وعسكرياً ونفوذاً.
والمهمة التي لا تحتمل التأجيل والملقاة على عاتق أوروبا الآن، هي الاضطلاع بدور يمنع روسيا من الانتصار في أوكرانيا. لكنها مهمة ليست سهلة، وتتطلب من الدول الأوروبية أن تتعايش مع حالة الحرب وأن تبني سياساتها الداخلية والخارجية على هذا الأساس.
وسيكون المطلوب في المقام الأول رصد موازنات عسكرية كبيرة والاتجاه إلى تعزيز الصناعات العسكرية وإعادة العمل بالخدمة الإلزامية، وصرف النظر عن الكثير من التقديمات الاجتماعية وتناسي دولة الرفاه التي عاش في كنفها الأوروبيون لعقود.
يتحدث ماكرون عن بناء "مفهوم استراتيجي لدفاع أوروبي". وهذا لن يتحقق من من دون تعاون مع ألمانيا بالدرجة الأولى. وهذا يحتاج إلى تفاهم أكبر بين الرئيس الفرنسي والمستشار الألماني أولاف شولتس.
كثير من المراقبين وضعوا كلام ماكرون في سياق حشد الناخبين خلف حزبه مع اقتراب الانتخابات الأوروبية في حزيران (يونيو). ووفق استطلاع رأي أجرته مؤسسة "أوبينين واي" نشر الجمعة، فإن قائمة الغالبية الرئاسية حصلت على 19% من نيات التصويت، أي أنها متخلفة كثيراً عن قائمة حزب التجمع الوطني اليميني (29%)، لكنها حافظت على تقدم واضح على قائمة الاشتراكيين (12%).
وحتى لو كان ماكرون يتحدث انطلاقاً من دوافع انتخابية، فإن تشخيصه لواقع أوروبا مصيب بنسبة كبيرة. والشخصية الأوروبية تطغى عليها الولايات المتحدة، بدليل أن الأوروبيين يسيرون في ركب السياسة الأميركية، سواء في الشرق الأوسط أم في مناطق أخرى من العالم.
والبحث عن الموقف المستقل يحتاج إلى بناء القدرات التي تحدث عنها الرئيس الفرنسي. وهذا ما يضع الاتحاد الأوروبي في سباق مع الوقت وفي قلب الصراع على مراكز النفوذ في العالم.