فيما تحارب إسرائيل على أكثر من جبهة، تزداد يوماً بعد يوم حاجتها إلى أميركا التي لا تبخل عليها بأي شيء تطلبه، أكان على صعيد التسليح أو الدعم المالي أو السياسي والدبلوماسي، حتى لتبدو الإدارة الأميركية معنية بإخراج رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وأركان حربه من المآزق اليومية للحرب على غزة وتداعياتها الدولية التي هزت صورة إسرائيل هزاً عنيفاً لدى الرأي العام العالمي، والغربي خاصةً.
تلعب أميركا دور الأم والأب معاً، تهز العصا أحياناً لكنها تغدق العطاء والهدايا والعطف وتمد يد العون دائماً. لا يجد الرئيس الأميركي جو بايدن ووزير خارجيته أنطوني بلينكن وأركان الإدارة والكونغرس وقادة الجيوش الأميركيين حرجاً في إبداء الموقف وضده في آن واحد، هذا ديدن السياسة الأميركية الدائم تجاه إسرائيل وقضية الشعب الفلسطيني منذ قيام الدولة وتشريد الفلسطينيين عام 1948، مروراً بكل الحروب التي خاضتها إسرائيل ضد هذا الشعب وضد دول عربية أخرى، في طليعتها لبنان الذي نال القسط الأكبر من العدوان الإسرائيلي المتكرر عليه.
تحارب إسرائيل اليوم على مجموعة من الجبهات: جبهة غزة المشتعلة من دون أفق منظور للحل منذ 7 تشرين الأول (أكتوبر) الماضي، حرب المشاغلة المتصاعدة على الحدود مع لبنان بينها وبين "حزب الله" والتي تدخل عليها بين الحين والآخر أطراف أخرى ذات دور ثانوي لكن معبر، حرب القمع التي تخوضها ضد مدن الضفة الغربية ومخيماتها مستظلة الانشغال الفلسطيني والدولي بحرب غزة، جبهة الرأي العام الغربي وحركة الطلاب في الجامعات الأميركية والفرنسية والأسترالية وغيرها المؤيدة لفلسطين وغزة في أضخم تحرك عالمي ضد الحرب الإسرائيلية، وأخيراً جبهة القضاء الدولي الذي تحرك لمقاضاة إسرائيل وقياداتها بتهم الإبادة وارتكاب جرائم الحرب، وجديدها تحقيقات المحكمة الجنائية الدولية، بعد تحقيقات محكمة العدل الدولية.
تفعل الإدارة الأميركية كل شيء لإطفاء حركة الطلاب في الجامعات الأميركية التي بدأت في أرقاها وأهمها صانعة النخبة العلمية والقيادية في المجتمع الأميركي ودول أخرى كثيرة أيضاً. ليس تفصيلاً ولا حدثاً بسيطاً عابراً أن ينتفض طلاب جامعة كولومبيا وجامعة هارفرد وغيرهما من كبريات الجامعات ضد الوحشية الإسرائيلية في غزة ويتمدد تحركهم إلى جامعات أخرى في طول الولايات المتحدة وعرضها، ثم تنضم إليه جامعات فرنسية وغير فرنسية مرموقة.
تمارس الإدارة الأميركية قمعاً معلناً للتحركات الطلابية المتنقلة، تتنكر لتاريخها الغني بالاحتجاجات الكثيرة على قمع دول أخرى لحركات الطلاب، تفعل ما كانت تفعله الصين وإيران وروسيا وبلدان عربية تماماً في مواجهة طلاب سلميين أقاموا مجموعة خيم ملونة لطيفة لإبداء تضامنهم مع شعب يُذبح كل يوم ولا يملك وسيلة لاتقاء الصواريخ والقذائف في معاناة قاسية مع الجوع والخوف والمرض والعطش وفقدان الأمان والأمل.
تجند الإدارة الأميركية طاقتها الدعائية لشيطنة حركة الطلاب، تتهمهم بالتخريب، وتستحضر اللازمة المعدّة سلفاً "معاداة السامية" في تكرار صار بائخاً للتهمة المستهلكة إلى حد الابتذال، فلا عنصرية في حركة الطلاب ولا عداء لليهود، وبين المحتجين على الوحشية من الطلاب يهود أيضاً. لكن الإدارة تدرك أن تأثير حراك الطلاب أكبر من مجرد احتجاج على مجازر يومية، إنه يشي بتحول كبير في نظرة قادة رأي المستقبل إلى الصراع في الشرق الأوسط وإلى ما يجب أن يكون عليه الموقف الأميركي من صراعات العالم مستقبلاً. وهذا الأمر يثير قلقاً أميركياً وقلقاً إسرائيلياً أيضاً تلقفته المعارضة الإسرائيلية التي بدأت تستشعر جدياً تداعيات تعنت نتنياهو وزمرته المتطرفة لحل دبلوماسي للحرب ثم للمشكلة برمّتها.
على جبهة محكمة الجنايات الدولية استنجد نتنياهو ببايدن واستنخاه ليدرأ عنه قراراً متوقعاً بإدانته وإصدار أمر باعتقاله. ارتعب اليمين الحاكم في إسرائيل من فكرة الأمر باعتقال نتنياهو وغيره من مجرمي الحرب، هم يعرفون أنهم يرتكبون حرب إبادة بحسب مفهوم محكمة الجنايات التي تحاكم الأفراد لا الدول. وهنا أيضاً لبى بايدن النداء وأعلنت إدارته أن حرب غزة خارجة عن نطاق اختصاص المحكمة الجنائية التي لا تملك واشنطن وتل أبيب سلطة مباشرة في داخلها كونهما غير موقعتين على ميثاق إنشائها. بل حاولت الخارجية الأميركية تسخيف الدعوى قائلة إنه ربما تكون بعض وحدات الجيش الإسرائيلي ارتكبت مخالفات في الضفة الغربية في فترة ما قبل حرب غزة لترسل بذلك رسائل ترضية إلى كل الأطراف.
فيما تتواتر المعلومات عن صفقة تبادل للأسرى وتبذل واشنطن جهداً كبيراً لإتمامها، تدور في العالم معركة أخرى أخلاقية تضع الولايات المتحدة في موقع يناقض التاريخ الذي سعت طويلاً لتكريسه كحامية للحريات والقيم.