قبل أيام، أعلن مسؤول كبير في وزارة الدفاع الأميركية أنّ أفراداً من الجيش الروسي دخلوا قاعدة جوية في النيجر تستضيف قوات أميركية، بعدما قرّرت الحكومة النيجيرية طرد القوات الأميركية من البلاد.
في سياق آخر، وفي زمن آخر، كان لهذه الحركة أن تطلق أزمةً أو حتى نزاعاً عسكرياً، لكن التحولات التي يعيشها العالم، في وقت يتراجع فيه الغرب في كل مكان، جعلت الأمر يمرّ من دون مشاكل تُذكر. تبدو الحادثة شديدة الرمزية، ففي الوقت الذي تقرّر فيه النيجر طرد القوات الأميركية، تستقبل قوات روسية، في دلالة إلى تفكّك النفوذ الأميركي في القارة مقابل عودة الروس القوية إليها بعد عقود من الغياب.
ورغم أنّ المسؤول الدفاعي الأميركي، قال إنّ القوات الروسية لا تختلط مع القوات الأميركية، وإنما تستخدم مكاناً منفصلاً في القاعدة الجوية المجاورة لمطار ديوري حماني الدولي في نيامي عاصمة النيجر، إلّا أنّ هذا التجاور، بين قديم يرحل وجديد وافد، سيكون عنوان مرحلة مقبلة في إفريقيا. قارة الفرص والموارد.
تستند العقيدة الروسية في الحضور العسكري في إفريقيا إلى أصول سوفياتية ذات جذور عميقة. في كتابها " تحرير الحرب الباردة"، تشرح الباحثة ناتاليا تيليبنيفا، هذه الأصول بدايةً من نهاية الحرب العالمية الثانية. في سياق عملية إنهاء الاستعمار المتسارعة في أواخر الخمسينات وأوائل الستينات من القرن العشرين، وفي ذلك الوقت، كان العديد من القادة الأفارقة، مثل كوامي نكروما (غانا) وسيكو توري (غينيا) يسعون للحصول على المساعدة والخبرة التنموية من دول الكتلة الشرقية، للتغلّب على الموروثات الاستعمارية وتحفيز النمو الاقتصادي. ورغم أنّ الزعماء الأفارقة لم يرغبوا في محاكاة النماذج الاقتصادية السوفياتية، فقد قدّمت موسكو الكثير من القروض والمنح والخبرة والتدريب، للدول التي اعتبرتها تسعى إلى "التنمية غير الرأسمالية".
لم تكن السياسة السوفياتية في إفريقيا متسقة دائماً مع مُثُل التضامن والأممية الاشتراكية، لكن الأيديولوجيا لعبت دوراً مهماً. شارك القادة السوفيات في رؤية عالمية ماركسية لينينية أكّدت على الصراع الطبقي والطبيعة العدوانية للإمبريالية. ومن خلال دعم حلفائها الأفارقة، كانت موسكو تهدف إلى مواجهة النفوذ الغربي في القارة وتعزيز هيبة الاتحاد السوفياتي. وعندما تحدّت الصين القيادة السوفياتية داخل الحركة الشيوعية الدولية في ستينات القرن العشرين، أصبح من الضروري أكثر إلحاحاً أن تثبت أوراق اعتمادها المناهضة للإمبريالية في العالم الثالث.
وتشير ناتاليا تيليبنيفا إلى أنّ التحوّل من العمل السياسي إلى الكفاح المسلح في أوائل الستينات من القرن الماضي، أجبر حركات التحرير على طلب الدعم من الاتحاد السوفياتي والدول الاشتراكية الأخرى، مثل الصين وكوبا، للحصول على الأسلحة وتدريب الجيش. من بين هؤلاء الذين تلقّوا دعماً قوياً الزعيم الجنوب إفريقي نيلسون مانديلا وحزبه "المؤتمر". كما شهدت حركات التحرير الناطقة بالبرتغالية ديناميكية مماثلة.
بمجرد أن شرع قادة الحركة الشعبية لتحرير أنغولا، وجبهة فريليمو، والحزب الإفريقي لتحقيق استقلال غينيا والرأس الأخضر في الكفاح المسلح، ناشدوا السوفيات بشكل منهجي للحصول على أموال إضافية وأسلحة ثقيلة أكثر تطوراً. وبموافقة المكتب السياسي للحزب الشيوعي، تمّ شحن الأسلحة بعد ذلك إلى البلدان الإفريقية، حيث كانت حركات التحرير نشطة، مثل تنزانيا والكونغو برازافيل وغينيا. لاحقاً ازداد التدخّل العسكري السوفياتي في إفريقيا خلال السبعينات، حيث سمح ارتفاع أسعار النفط والتقدّم في التكنولوجيا السوفياتية لموسكو بتوسيع نفوذها العسكري نحو مسافات طويلة.
ومع ذلك، وعلى عكس ما اعتقده القادة الأميركيون في ذلك الوقت، لم تكن التدخّلات السوفياتية في السبعينات من القرن الماضي تسترشد باستراتيجية كبرى أو خطة متماسكة. وبدلاً من ذلك، كان ردّ فعل القادة السوفيات في كثير من الأحيان على الضغوط التي يمارسها حلفاؤهم، ما أدّى إلى جرّ موسكو بشكل أعمق إلى الصراعات المحلية. وكانت هذه الديناميكية واضحة في أنغولا.
بعد الانقلاب والتحوّل الديموقراطي اللاحق في البرتغال عام 1974، اشتدت المنافسة بين مجموعات التحرير الرئيسية الثلاث في أنغولا - الحركة الشعبية لتحرير أنغولا، والجبهة الوطنية لتحرير أنغولا، ويونيتا. وعندما اتخذت هذه المنافسة منحى عنيفاً على نحو متزايد، استأنفت موسكو شحنات الأسلحة إلى الحركة الشعبية لتحرير أنغولا في عام 1975 عبر ميناء بوانت نوار في الكونغو برازافيل. ومع ذلك، ظل السوفيات يأملون في تجنّب المزيد من المشاركة، ودعوا إلى "حل إفريقي" للصراع.
لكن، تفكّك الإتحاد السوفياتي عصف بالإستراتيجية الروسية في إفريقيا. وجعل القارة نهباً لقوى جديدة. كانت الصين في طليعة القوى التي ورثت مواقع السوفيات، كما عززت الولايات المتحدة مواقعها في القارة، لا سيما بعد إطلاق "الحرب على الإرهاب" ووصلت تركيا متأخّرةً، لكنها حازت مواقع متقدّمة.
تعود ناتاليا تيليبنيفا، إلى النفوذ الروسي الحالي، الذي شرع فيه الرئيس فلاديمير بوتين منذ العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، وبخاصة في المجال العسكري، حيث أصبحت موسكو في الفترة بين عامي 2018 و2022، المورّد الرئيسي للأسلحة إلى القارة، بعد أن استحوذت على 40% من الأسلحة الموردة، مع إبرام عقود أسلحة كبيرة مع دول مثل الجزائر ومصر وليبيا في إفريقيا في الشمال، وأنغولا والنيجر ومالي في إفريقيا جنوب الصحراء . ويمكن أن يعزى هذا الانبعاث إلى الجهود التي يبذلها بوتين لإقامة مجال جديد من النفوذ في القارة وتجنّب العزلة الدولية في أعقاب تدخّلات روسيا في جورجيا (2008) وشبه جزيرة القرم (2014). وبينما كانت وزارة الدفاع تتولّى إدارة المساعدة العسكرية خلال الحقبة السوفياتية، فإنّ الكثير من النشاط الروسي اليوم يتمّ تنفيذه من قبل شركات عسكرية خاصة تابعة للدولة، وأشهرها كانت "فاغنر". وهذا تحوّل مؤسسي لافت في عقيدة الروس الجديدة في إفريقيا.
وترسم الباحثة بعض أوجه التشابه مع تدخّلات الحقبة السوفياتية في إفريقيا. فكما كان الحال في سبعينات القرن الماضي، يسعى الجيش الروسي إلى إنشاء منشآت بحرية وعسكرية، لا سيما في جمهورية إفريقيا الوسطى، وسوريا، وليبيا، وبوركينا فاسو. وفي إفريقيا الوسطى، قدّمت "فاغنر" التدريب العسكري والأمني للحكومة المركزية، وشاركت في المفاوضات بشأن اتفاق الخرطوم للسلام لعام 2019 بين الحكومة المركزية والجماعات المتمرّدة، بل ونفّذت عمليات قتالية لمواجهة الهجمات على العاصمة بانغي في 2021، مشيرةً إلى أنّه في الوقت الذي سعت فيه الحكومة الروسية إلى توسيع قواعد أنشطتها، استخدمت وزارة الخارجية الروسية "دبلوماسية الذاكرة" لتسليط الضوء على دور الاتحاد السوفياتي في نضالات التحرّر الإفريقية. وفي القمة الروسية- الإفريقية الأولى في عام 2019، وضع بوتين روسيا كمدافع عن سيادة إفريقيا ضدّ تعدّيات القوى الغربية.