في الوقت الراهن، ليست المعادلة أيهما أفضل لنا، ترامب أم بايدن؟ فإن هناك تحركات متسارعة لوأد الحرب في المنطقة، وذلك في إطار برامج سياسية متزامنة، إذ بعثت الولايات المتحدة وزير خارجيتها أنطوني بلينكن إلى منطقتنا، لبحث ملفات متشابكة تشمل إيقاف الحرب في غزة، ومناقشة التطبيع بين إسرائيل والسعودية، وهو ما يستدعي الحديث عن حل الدولتين، وكذلك السيطرة على سلوك القادة في إسرائيل الذين لا يتوقفون عن التهديد بفتح جبهة الحرب في رفح.
وعلى ضفة أخرى، تقود فرنسا جهوداً موازية في المنطقة، من خلال بعثها وزير خارجيتها ستيفان سيجورنيه في جولة إقليمية، ركزت على لبنان وربط ملفاته الداخلية بالخارجية، وعلى أن الحل يبدأ بإبعاد قوات نخبة "حزب الله" عن الحدود مع الأراضي المحتلة، تفعيلاً للقرار الأممي 1701. وهو ما يربط جولة سيجورنيه بجولة نظيره الأميركي، إذ يضع "حزب الله" إنهاء الحرب في غزة وعدم فتح جبهة رفح شرطاً أساسياً للجلوس إلى طاولة المفاوضات، وهو ما يبدو شرطاً صعباً؛ بخاصة أن إسرائيل تبحث عن جائزة كبرى تضمن لها استعادة أمنها وسلامة دولتها.
وهنا تأتي مهمة المبعوث الأميركي آموس هوكشتاين الذي يوزع الإغراءات والضغوط في جولاته بين تل أبيب وبيروت، حيث يروّج لمعادلة إبعاد "حزب الله" عن الجنوب في إطار مفاوضات لترسيم الحدود البرية بين إسرائيل ولبنان.
ثم بعد ذلك، يأتي الحديث عن إيران التي باركت من قبل ترسيم الحدود البحرية بين الطرفين عام 2022، والآن نجدها هي الأخرى مشغولة بالعودة إلى المفاوضات النووية، وذلك من أجل تخفيف العقوبات الاقتصادية ودعم انفتاحها الاقتصادي على دول الإقليم، مستغلة اللحظة الانتخابية التي يعيشها البيت الأبيض، بخاصة أن إدارة الرئيس الديموقراطي جو بايدن، تسارع الخطى للسيطرة على الموقف في الشرق الأوسط، لدرجة دخولها في خلافات مع إسرائيل.
وكأن إدارة بايدن تضع "إسرائيل - نتنياهو" أمام معادلة رفح أو الرياض، أي الحرب أم السلام؟
لكن يبدو أن نتنياهو وصقور إسرائيل غير مستعدين بعد للانتقال إلى الشروط السعودية قبل التطبيع مع دولتهم، وعلى رأسها الاعتراف بالدولة الفلسطينية، ما يعني أن الإدارة الأميركية عاجزة عن ترتيب المنطقة، ما يعزز مخاوف أولئك الصقور من شبح الجنائية الدولية الذي يلاحقهم.
إيران اليوم
بالفعل هناك تغيير طرأ على إيران اليوم، ونستشعر ذلك بالسؤال: ماذا سيكون الوضع في المنطقة لو لم يحدث اتفاق مصالحة بين طهران والرياض في بكين عام 2023؟
أي إن هذا الاتفاق هو ما أدار معادلة التصعيد بين إيران وإسرائيل في أعقاب عملية "طوفان الأقصى" وقصف القنصلية الإيرانية في دمشق، فدول المنطقة كانت خارج معادلة التصعيد المتبادل بين الطرفين بفضل هذا الاتفاق، وإلا كانت منطقتنا ستدخل في دائرة مفرغة من عمليات الانتقام المتبادلة.
ويبدو أن دول المنطقة قد استوعبت خطأ سياسة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب الذي أراد شطر الخليج إلى ضفتين متصارعتين، إذ كان التصعيد العسكري بين إيران وإسرائيل اختباراً لسياسة ترامب وكذلك بايدن، وفي النهاية اختارت تلك الدول أولوية إشراك إيران لا عزلتها، فالطموحات الاقتصادية تحتاج إلى استقرار المنطقة لا الدخول في حسابات الانتقام بين إيران وإسرائيل.
وقد أرادت طهران أن تعبر عن استيعابها للموقف الخليجي، وذلك عبر تصريحات ساستها وعسكريّيها خلال فعاليات المؤتمر السنوي لليوم الوطني للخليج، الاثنين 29 نيسان (أبريل)، إذ ركزت رسائلهم على طمأنة دول الخليج، فقد أكد وزير الدفاع الإيراني، العميد محمد رضا آشتياني، أن استراتيجية القوات المسلحة هي توفير الأمن في الخليج ومضيق هرمز.
وقال قائد بحرية الحرس الثوري المسؤولة عن أمن مياه الخليج، الأميرال علي رضا تنكسيري: "الخليج مهم جداً من حيث الأمن، وقد أرسلنا مراراً رسائل سلام وصداقة إلى الدول المجاورة".
خطوة إلى الأمام
يبدو أن طهران في خضم التحركات الإقليمية المتسارعة لاستعادة الهدوء في المنطقة، وكذلك وسط إعادة الحديث عن الاتفاق الإبراهيمي، تريد الذهاب إلى خطوة متقدمة، بتقديم نفسها بديلاً لإسرائيل أو بوصفها شريكاً في أمن الخليج، وذلك بإحياء الحديث عن مبادرتها التي أعلنتها عام 2019 (هرمز للسلام - في إطار القرار الأممي 598 خلال الحرب العراقية - الإيرانية عام 1987، الذي وفر مظلة دولية لأمن الخليج والطاقة وحرية الملاحة وإبرام معاهدة عدم الاعتداء)، لكنها لم تفلح بسبب سياسة دونالد ترامب وتركيزها على نجاح الاتفاق الإبراهيمي بين إسرائيل ودول الخليج، وهو ما لم يكن ينجح بدون شد أعصاب إيران وإثارة غضبها.
ولذلك يجب عدم إغفال تصريحات وزير الخارجية الإيراني حسين عبد اللهيان التي بدا أنها موجهة إلى دول الجوار في الجنوب خلال فعاليات اليوم الوطني للخليج، فقد قال إن "تأمين الخليج مرهون بمشاركة جميع الدول المتشاطئة.. إن إيران لا تزال على استعداد للتعاون ومشاركة قدراتها وإمكاناتها في سياق التنمية المستدامة للخليج.. بصفتي وزيراً، أتطلع إلى منطقة الخليج أن تنعم بالأمن المستدام والاستقرار والازدهار، وأن تكون منطقة هادئة بالنسبة لمواطنيها القاطنين في ضفتيها الشمالية والجنوبية".
وتشير تصريحات كتلك إلى أن طهران تريد استكمال مشوار المصالحة مع السعودية الذي هو نواة لاتفاق أكبر يشمل الحوار الإقليمي، بخاصة أن الأمين العام لمجلس التعاون الخليجي جاسم محمد البديوي، أعلن في مقر الأمانة بالرياض، 28 آذار (مارس) 2024 عن رؤية مجلس التعاون للأمن الإقليمي، التي تعد أول إعلان صريح عن رؤية أمنية جماعية في تاريخ هذه المنظمة.
ولا ننسى أن استعادة الهدوء إلى منطقة الخليج أمر يطلبه الجميع، فهناك مبادرة روسية وأخرى صينية منذ عام 2020، لتحقيق الأمن في تلك المنطقة الاستراتيجية تحت مظلة منظمة للأمن والتعاون بمشاركة دول ضفتي الخليج والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والهند.
وتلعب الممرات الاقتصادية دافعاً لهذه الرغبة المشتركة، إذ تريد الصين دعم مبادرتها "الحزام والطريق"، وتريد روسيا توفير الأمن لممرها الاقتصادي شمال - جنوب الذي يصل إلى الهند، بل إسرائيل أيضاً تريد المشاركة في تلك الممرات عبر الممر الخليجي الذي يربط شرق المتوسط بمياه الخليج وصولاً إلى الهند.
لكن يبدو أن طهران التي ترحب بالمكاسب بدلاً من الخسارة تريد أيضاً الحفاظ على أهدافها التي ترتبط بطبيعة نظامها، فقد قال المرشد الأعلى علي خامنئي، خلال كلمته لمناسبة "يوم المعلم" الأربعاء 1 أيار (مايو)، "يجب أن يعرف شباب الوطن لماذا نرفع شعار الموت لإسرائيل".
وفي إشارة إلى أن المصالح الاقتصادية المشتركة لن تُنحي القضية الفلسطينية جانباً، قال خامنئي إن "التطبيع مع إسرائيل لن يحل المشكلة الفلسطينية، ولكن بعودة فلسطين إلى أصحابها مسلمين ومسيحيين ويهود".
ما يعني أن خامنئي يحدد للسياسة الخارجية الإيرانية مسارها، فإن تحقق الحوار الإقليمي بين إيران ودول خليجية قبلت التطبيع مع إسرائيل مع اشتراطها حل الدولتين، بالنسبة إلى إيران لا يعني الاعتراف بإسرائيل.
ويمكن القول أيضاً إن خامنئي يضغط على السعودية للحفاظ على شرطها (حل الدولتين في إطار المبادرة العربية)، قبل الموافقة على التطبيع مع إسرائيل. فإن عدم جلب الاستقرار للمنطقة يقلل أهمية الاتفاق الإبراهيمي، ما دامت دول الخليج ستقع في منطقة تلقي الصفعات بين طهران وتل أبيب.
في انتظار غروسي!
يبدو أن الزيارة التي سيقوم بها مدير الوكالة الدولية للطاقة الذرية رافائيل غروسي لطهران للمشاركة في المؤتمر النووي الدولي الأول لإيران، الذي سيعقد في مدينة أصفهان خلال الفترة من الاثنين 6 إلى الأربعاء 8 أيار (مايو) الجاري، ستكون مصيرية، لأنها ستمهد لإزالة العقبات لاستئناف المفاوضات النووية التي تمهد لرفع العقوبات عن إيران التي تتعهد لشعبها خفض مستوى التضخم ومعالجة أزمات الاقتصاد، بعدما لم تحقق الاتفاقيات الاقتصادية الاستراتيجية مع الصين وروسيا النتائج المرجوة لاقتصادها.
وتدل تأكيدات رئيس هيئة الطاقة الذرية الإيرانية محمد إسلامي، باستمرار عمل مفتشي الوكالة الدولية وعدم منعهم من دخول البلاد، وكذلك كشفه عن وجود أربعة أماكن موضع شك من جانب الوكالة الذرية، وأنه تمت إزالة الشكوك عن موقعين، وجاري النقاش حول اثنين آخرين، تدل إلى أن طهران تسعى لإزالة العقبات أمام استعادة المحادثات النووية المعلنة مع مجموعة 5+1، أي التمهيد للعودة لاتفاق شامل، أو على الأقل الهروب من تفعيل آلية الزناد (سناب باك) التي تهدد بعودة فرض العقوبات الدولية على إيران، إذا ما قامت القوى الغربية بإعادة ملف إيران إلى مجلس الأمن الدولي.
وتشير جهود الوساطة التي تقودها سلطنة عمان أو اليابان أو الصين إلى أن إيران تسعى لمعالجة أزمتها النووية في اتجاه عكسي لسياسة "خفض الالتزام" النووي التي أطلقتها في مواجهة سياسة "أقصى ضغط" التي فرضتها إدارة ترامب بعد الانسحاب من الاتفاق النووي عام 2018، أي العودة إلى العمل في إطار الآلية التي وضعتها إيران لحل أزماتها الخارجية تحت مبدأ "خطوة تقابلها خطوة"، وإعادة تكرار تجربة الاتفاق الموقت الناجح مع إدارة بايدن الذي منح إيران تغاضياً أميركياً عن مبيعاتها النفطية وساعدها في الحصول على أموالها المجمدة في الخارج.
ولكن هذه المرة تبحث طهران عن اتفاق يضمن لها تنمية تجارتها واستثماراتها مع دول الخليج ويرفع القيود عن بنكها المركزي، والأولَى أن يكون اتفاقاً تأتي ضمانة قوته من استقرار العلاقات مع دول الخليج وليس من طبيعة الرجل الذي يحكم البيت الأبيض!