يتصاعد في الآونة الأخيرة الجدل في العراق بخصوص اعتبار "عيد الغدير" عطلة رسمية عراقية على خلفية دعوة من زعيم التيار الصدري السيد مقتدى الصدر بهذا الخصوص. شجعت هذه الدعوة الإشكالية بعض البرلمانيين لتقديم مشروع قانون منفصل عن قانون العطل الرسمية يختص بـ"بعيد الغدير"، لكن القراءة الأولى لمشروع القانون هذا لم تمضِ وسط خلافات شيعية - سنية. أوقد مشروع هذا القانون جدلاً شعبياً وإعلامياً واسعاً بخصوص العقائد الدينية ودورها في الحيز العام وعلاقتها بالوطنية العراقية.
تكمن المشكلة في دعوة الصدر واستجابة بعض البرلمانيين لها في حقيقة أنها تسعى لتشكيل قيم وطنية عراقية عامة على أسس عقائدية ومذهبية خلافية تحيل العراقيين الى وقائع تاريخية قبل 1400 عام وليس هناك اتفاق بخصوص معانيها أو دلالاتها، وذلك في إطار صراع سياسي شيعي - شيعي بين التيار الصدري والإطار التنسيقي على تمثيل التشيع في الحيز العام، واعتبار قيمه بالتفسير المذهبي الشيعي قيماً وطنية لكل العراقيين على نحو أوتوماتيكي، من دون اعتبار لوجود السنّة العرب والأكراد وغيرهم من العراقيين الذين لا يشاركون الشيعة في هذا التفسير ولا يعتبرونه مناسباً للحيز الوطني العام.
يشير "الغدير" إلى حادثة تاريخية في أواخر العصر النبوي، السنة العاشرة للهجرة، حين ألقى النبي محمد، في الثامن عشر من ذي الحجة، خطبة في جمع كبير من المسلمين بعد عودته من حجه الوحيد إلى مكة في موضع بينها وبين المدينة اسمه غدير خم. في تلك الخطبة التي سبقت وفاة النبي بثلاثة أشهر تقريباً (يختلف السنّة والشيعة بشأن تاريخ هذه الوفاة بفارق 14 يوماً)، عرض النبي وصايا كثيرة، وذكرَ ابن عمه، علي بن أبي طالب، على نحو خاص قائلاً "من كنت مولاه فهذا علي مولاه" (ترد الجملة بألفاظ مختلفة قليلاً ويُختلف كثيراً في الجمل التي تلتها). باستثناء هذا الاتفاق على الحادثة وما ورد فيها من تقديم علي ومدحه وإعلاء شأنه، تختلف الحادثة كثيراً وعلى نحو حاسم وقاطع في سردها الشيعي عن سردها السنّي.
في سردها الشيعي هي نص نبوي على الاختيار الإلهي للإمام علي كي يكون خليفة المسلمين وإمامهم بعد النبي مباشرةً ولذلك هي تُربط في هذا السرد، كسبب لإلقائها، ببعض آخر الآيات القرآنية التي تلقاها النبي قبل وفاته كالآيتين في سورة المائدة، وهما الثالثة "حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أُهل لغير الله به . . ." إلى آخر الآية "اليوم أكملتُ لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا"، والسابعة والستون "يا أيها الرسول بَلّغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلَّغت رسالته والله يعصمك من الناس إن الله لا يهدي القوم الكافرين" (ليس هناك اتفاق سني - شيعي أو حتى سني -سني بخصوص نزول الآيات الأخيرة من القرآن الكريم).
يحاجج الشيعة إن إكمال الدين وإتمام النعمة الواردين أعلاه يتمان بإبلاغ النبي جمهور المسلمين أن علياً هو خليفته بأمر من الله، وأن عدم إبلاغ النبي المسلمين بهذا يعني أنه لم يبلغ رسالة الإسلام. في خطبة الغدير يؤدي النبي مهمته ليكتمل دين الإسلام، بحسب الرواية الشيعية التي تكرسها تسمية حادثة الغدير بـ"عيد الغدير" أو "عيد الله الأكبر".
السرد السنّي لحادثة الغدير مختلف تماماً، ولا يرتبط بتفسير آيات قرآنية أو نزولها، أو إعلان هوية الإمام / الخليفة المقبل بعد رحيل النبي، وإنما بالدفاع عن الإمام علي ضد تشويه للسمعة وهجمات تعرض لها من بعض الصحابة. برغم الاختلاف في بعض التفاصيل والألفاظ، يتفق هذا السرد في تقديم سبب مختلف تماماً لحصول خطبة الغدير، وبالتالي يفسر معناها على نحو مختلف أيضاً يتسق مع الأسباب التي يقدمها.
على أساس هذا السرد، عندما توجه النبي إلى مكة لغرض الحج مع جمع كبير من المسلمين والقبائل التي دخلت حديثاً في الإسلام، كان الإمام علي في اليمن في مهمة أرسلها النبي فيه (قيادة سرية في سياق غزوة أو جمع أموال الزكاة)، فأرسل إليه النبي أن يحضر معه الحج، فانطلق الرجل من اليمن ومعه، تحت إمرته، بعض الصحابة بينهم خالد بن الوليد وبريدة الأسلمي ومعهم أموال الزكاة أو الخمس، وفيها قطيع كبير من الماشية (السبي والحُلل في رواية أخرى). بسبب هذا القطيع الكبير وبطء حركته خشي الإمام علي أن يفوته الحج مع النبي، فترك القطيع مع الأثنين، وركب حصانه وانطلق نحو مكة ليصل هناك قبل الحج ويؤديه مع النبي. عند الانتهاء منه عاد إلى ليصل إلى موضع القطيع ليجد أنه تم التصرف ببعضه. ولأنه من أموال المسلمين التي لا يجوز التصرف بها دون إذن الولي، غضب الإمام علي (وقيل إنه صفع خالد بن الوليد والأسلمي ولامهما بشدة). انزعج الاثنان وقررا أن يشتكياه عند النبي وهو ما فعلاه عندما وصلوا جميعاً مع القطيع قرب غدير خم والتقوا ببقية المسلمين العائدين من الحج.
لم يقبل النبي الشكاوى بحق علي وأعرض عنهما. في هذه الحادثة وردت بعض أهم الأحاديث في مدح علي في سياق الرد على الانتقاص منه وذمّه (مثل "علي مع الحق والحق مع علي"). لم يقبل المشتكون إعراض النبي عنهم فبدأوا يشنعون في الجمع الكبير الذي بلغ عشرات الآلاف من الناس على الإمام علي ويذكرونه بأسوأ الأوصاف رغم نهي النبي لهم عن ذلك. فانتشرت في هذا الجمع، وكثيرون منهم حديثو الإسلام، الأقاويل التي تحط من قدر الإمام علي، وتشوه سمعته. بازاء هذا، قرر النبي ايقاف الجمع الكبير عند غدير خم حيث تتفرق القبائل ويذهب كلٌّ الى سبيله (لم يرد النبي أن تتفرق القبائل بعدما سمعت الأقوال الشنيعة بحق علي من دون رده عليها ورفضه لها). فكانت الخطبة المعروفة ("من كنت مولاه فهذا علي مولاه" إلى آخر الخطبة في غدير خم). في السردية السنّية الخطبة مرتبطة بالدفاع عن الإمام علي وصون كرامته وإعلاء مكانته ضد التشنيع الذي حصل ضده، ولا علاقة لها بالإمامة أو التوصية بالخلافة وإنما فقط تأكيد المنزلة الرفيعة للإمام علي.
السردية الشيعية، التي لا تمر عادةً بالأحداث السابقة للخطبة المرتبطة بأموال الزكاة أو خمس الغنائم وعودة الإمام علي من اليمن والنزاع الذي حصل بخصوص التصرف بها، تتوقف عند الخطبة فقط وتربطها بنزول الآيات الأخيرة من القرآن الكريم، بخلاف السردية السنّية التي تربط الخطبة بأحداث سابقة لها. وهكذا يعطينا التأريخ سرديتين مختلفتين تماماً لا يمكن التوفيق بينهما أو توحيدهما تحت مسمى "عيد الغدير"، فضلاً عن أن الحادثة أساسية على نحو حاسم في الفهم الشيعي للإسلام، فيما هي حادثة تاريخية عابرة بالنسبة للتسنن ولا قيمة عقائدية لها.
يستخدم المؤيدون لمشروع القانون، برلمانيين وجمهوراً، حججاً ظاهرها ديموقراطي، لكن جوهرها عقائدي، عبر الإصرار أنه ما دام الشيعة أغلبية سكانية، فإنه يقع ضمن حقهم الطبيعي أن يصبح "عيد الغدير" مناسبة وعطلة وطنية، فيما يحاجج الآخرون بأن "عيد الغدير" مناسبة مذهبية، ترتبط بالشيعة حصراً ويمكن الاحتفاء بها في المحافظات ذات الأغلبيات الشيعية، أي ترك الأمر لكل محافظة لتقرر ما تشاء بخصوصه، بدلاً من أن يقرر البرلمان الاتحادي هذا الأمر نيابة عن كل المحافظات. من وجهة نظر ديموقراطية، فإن للأغلبية حق الحكم، كامتياز تحصل عليه في إطار تنافس سياسي عادل وانتخابات حرة نزيهة، لكن شرط الحفاظ على حقوق الأقلية. من هنا تكمن الإشكالية بخصوص اقتراح "عيد الغدير" مناسبة وطنية، لأن الرواية الشيعية لحادثة الغدير تنقض العقيدة السنية بخصوص الإمامة / الخلافة القائمة على اختيار أهل الحل والعقد للإمام / الخليفة وتقدم عليها العقيدة الشيعية القائمة على التعيين الإلهي للإمام / الخليفة، بالتالي فهي تنتقص من قدر التسنن، حتى وإن كان هذا دون قصد، لصالح إعلاء التشيع في الحيز العام.
هل يحتاج العراق اليوم فعلاً الدخول في هذه النزاعات التاريخية والعقائدية وتجديد النقاش العقيم بخصوصها كل عام عندما تحل مناسبة "عيد الغدير" إذا أقرها البرلمان عطلة سنوية؟
الصحيح أن تقرر كل محافظة ما تريد فعله بخصوص هذه المناسبة وينتهي الأمر...