النهار

كل طرق الهجرة تمرّ من تونس
أسامة رمضاني  
المصدر: النهار العربي
يتدفق على تونس الآلاف من مواطني البلدان الإفريقية جنوب الصحراء. ومعظم هؤلاء في وضعية غير قانونية والكثير منهم يتحينون الفرصة لعبور المتوسط نحو اوروبا انطلاقا من سواحل تونس.
كل طرق الهجرة تمرّ من تونس
تظاهرة في صفاقس تطالب بترحيل المهاجرين غير الشرعيين
A+   A-
تواجه تونس اليوم مفارقة غريبة، فهي تؤوي مكرهة آلاف المهاجرين غير النظاميين من بلدان أفريقيا جنوب الصحراء، في الوقت الذي تخسر فيه الآلاف من مواطنيها الذين يغادرون البلاد بلا انقطاع نحو الخارج.

أول مغادري تونس هذه الأعوام كفاءاتها. تفيد جريدة "الصباح" التونسية بأن السنوات الست الماضية شهدت هجرة أكثر من 39 ألف مهندس، أي بمعدل 6500 كل عام. وهناك أيضاً حوالي 4 آلاف طبيب غادروا بين 2020 و2023.
يضاف إلى هؤلاء الآلاف من التونسيين والتونسيات من مختلف الأعمار والتخصصات المهنية (والعاطلين من العمل) وممن يهاجرون إلى الخارج بطرق قانونية وغير قانونية.

في الآن ذاته يتدفق على تونس الآلاف من مواطني البلدان الأفريقية جنوب الصحراء. ومعظم هؤلاء في وضعية غير قانونية، والكثير منهم يتحينون الفرصة لعبور المتوسط نحو أوروبا انطلاقاً من سواحل تونس.

بعض المحللين يرى في هذه المفارقة أمراً عادياً، بل هي تضم وجهين لظاهرة واحدة هي ظاهرة الهجرة التي تشمل كل الأزمان والأوطان ويزداد نسقها زمن الحروب والأزمات.

المفكر التونسي محمد الحداد لا يوافق على هذا الرأي، إذ يرى أن "الهجرة ظاهرة طبيعية عندما تحصل من بلد فقير إلى بلد غني" وهي تصبح بالعكس "ظاهرة مدمّرة عندما تحصل من بلد فقير إلى بلد فقير". ويتساءل: "أي مستقبل لبلد يغادره آلاف الأطباء والمهندسين ويدخله آلاف المهاجرين غير النظاميين؟".

كلام الحداد يعكس حيرة متزايدة لدى التونسيين تجاه تدفق المهاجرين في الاتجاهين.

هوس التونسيين بالهجرة إلى الخارج حالة نفسية واجتماعية على علاقة بأوضاع البلاد التي لا يمكن أن تقارن بأي شكل من الأشكال بأوضاع أفارقة جنوب الصحراء الهاربين من الحروب والنزاعات.

تعوّد التونسيون على هجرة مواطنيهم إلى الخارج وطبّعوا معها. ولكنهم لم يتعودوا على وجود المهاجرين الأفارقة بينهم، بل تفاقم القلق الذي يساورهم بهذا الخصوص وبلغ حداً غير مسبوق خلال الأسابيع الأخيرة.

الكثير من التونسيين يرون أن المشكل الذي تواجهه تونس بهذا الخصوص حقيقي وليس ناتجاً من هواجس عنصرية، وإن كانت هناك رواسب عنصرية في المجتمع لا يمكن إنكارها. هذه الرواسب ليست هي سبب المشكل وإن كانت ساهمت في نشوء قطيعة شبه كاملة بين المهاجرين الأفارقة ومعظم التونسيين.

المصدر الأول للحيرة المتزايدة تجاه تدفق المهاجرين الأفارقة هو أنه لا أحد يعرف اليوم العدد الحقيقي لهؤلاء المهاجرين الموجودين على التراب التونسي بصفة غير قانونية، هذا بالإضافة إلى اللاجئين وطالبي اللجوء.

اليوم تتراوح التقديرات بخصوص عدد أفارقة جنوب الصحراء المقيمين في تونس بوضعياتهم المختلفة بين 25 ألفاً وأكثر من مئة ألف. والفرق شاسع بين التقديرين.

تقول الأرقام الرسمية إنه تم منع حوالي 20 ألف مهاجر أفريقي من دخول التراب التونسي منذ بداية العام. ولكن المعطيات الرسمية لا توضح كم من هؤلاء تمكن من عبور الحدود البرية إلى تونس خلال الفترة نفسها.

ما تناقلته وسائل الإعلام المحلية والعالمية هو أن هناك تجمعات مكثفة لهؤلاء المهاجرين في مناطق زراعية في محافظة صفاقس وسط البلاد. وتقول وكالة "فرانس برس" استناداً إلى منظمات تنشط في مجال الخدمات الإنسانية، إن هناك ما لا يقل عن عشرين ألف مهاجر أفريقي يقيمون في المخيمات العشوائية في بلدتي العامرة وجبنيانة الواقعتين في هذه المحافظة.

وقد يكون مشروع "النظام الوطني للمعلومات حول الهجرة" الذي تسعى السلطات لإنجازه خطوة إيجابية نحو تبديد هذا الغموض المربك. ولكن المشروع ما زال في بدايته.

المصدر الثاني للحيرة هو الشكوك التي تحوم حول المساعدة الخارجية التي يمكن أن تعوّل عليها تونس في مواجهة الظاهرة.

من جهة الجوار المباشر للبلاد يتدفق المهاجرون عبر حدود ليبيا والجزائر نحو تونس بطريقة مثيرة للتساؤلات حول درجة التعاون بين البلدان الثلاثة على حماية حدودها المشتركة.

ومن جهة أخرى يتكدس المهاجرون الأفارقة في نواحي صفاقس والمهدية وغيرها من المحافظات التونسية، بما يخدم مصلحة إيطاليا وأوروبا، إذ إن ذلك ينقل الأزمة من شمال المتوسط إلى جنوبه. يشكل ذلك تهديداً لاستقرار تونس واستنزافاً لإمكاناتها المحدودة. رغم ذلك لا يرى التونسيون يد المساعدة تمتّد إليهم مقنعاً من قبل الأوروبيين. ولا يبدو حتى بعد الاجتماع الذي انعقد الأسبوع الماضي في روما بين وزراء داخلية إيطاليا وتونس والجزائر وليبيا أن هناك مؤشرات إلى تغيير جوهري في المعادلة الحالية أو تجسيم فعلي لمقاربات جديدة مشتركة مثل تلك التي بشّر بها المجتمعون.

أما المصدر الثالث للحيرة فيتعلق بالتساؤلات حول قدرة تونس داخلياً على احتواء التوترات المتزايدة الناتجة من الظاهرة، بخاصة أن معظم السكان يرفضون تحمل التبعات الاقتصادية والبيئية لوجود المهاجرين الأجانب في مناطقهم، وإن كان هؤلاء يعانون ظروفاً معيشية وصحية صعبة.
وللحيرة بعد رابع وهو بعد سياسي، ويتعلق بعدم وجود استراتيجية واضحة من الدولة للتعامل مع المشكل.

وما تم طرحه أو محاولة تطبيقه إلى حد الآن لا يشفي الغليل. هناك إما مقاربات بعيدة الأمد وتتطلب تمويلات أوروبية ضخمة مثل التي تدعو إلى معالجة الجذور العميقة للظاهرة، أو إجراءات جزئية وصعبة التنفيذ مثل تشجيع المهاجرين على "العودة الطوعية" إلى بلدانهم. ويتطلب ذلك جهوداً مضنية ومعقدة مع البلدان الأصلية للمهاجرين، هذا بالطبع إذا كان لهؤلاء أوراق هوية تثبت جنسياتهم وكانت بلادهم الأصلية لا تعاني النزاعات المسلحة مثلما هي حال المهاجرين وطالبي اللجوء السودانيين. كما أن محاولة نقل المهاجرين إلى "بلد ثالث" (إن وجدت بلاد متطوعة لذلك) لن تكون أقل تعقيداً.
 
وغياب الاستراتيجية المعلنة من السلطات يجعل البعض من نشطاء المجتمع المدني يتهمون السلطات بأنها تنوي إقامة معسكرات لإيواء المهاجرين باتفاق مع إيطاليا ودول الاتحاد الأوروبي. في الأثناء تكتفي السلطات على ما يبدو بنقل المهاجرين الأفارقة من مكان إلى آخر داخل البلاد عندما تتصاعد التوترات بين هؤلاء وسكان المناطق التي يقيمون فيها.

وفي الآن نفسه تتعالى الأصوات عبر مواقع التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام من الكثيرين من عامة الناس يدعون إما إلى "ترحيل" المهاجرين الأفارقة أو إلى إزالة القيود الأمنية التي تمنع هؤلاء من مغادرة شواطئ تونس نحو الضفة الشمالية للمتوسط. بل إن أحد ناشطي المجتمع المدني المهتمين بالهجرة دعا السلطات صراحة إلى "التقليص من مجهود حماية الحدود البحرية في اتجاه إيطاليا".

يأتي جو الحيرة والانزعاج تجاه تفاقم أزمة المهاجرين قبل أشهر فقط من الانتخابات الرئاسية. وسوف تحتاج السلطات في هذا السياق إلى بذل جهود إضافية من أجل إقناع التونسيين بأنها قادرة على احتواء هذه الأزمة المتفاقمة قبل أن تخرج عن السيطرة.

وحتى الزيارة التي أداها وفد برلماني لمنطقة صفاقس الأسبوع الماضي لم تخفف من حدّة القلق ولم تقدم مؤشرات عن حلول ممكنة. بل إن متحدثاً باسم الوفد صرح بأن الوضع أضحى يمثل "تهديداً للأمن القومي" وسلامة المواطنين التونسيين.

تحتاج السلطات في نهاية المطاف إلى مراعاة اعتبارات عدة متناقضة. فعند كل مبادرة تتخذها في هذا الملف الشائك تجد نفسها أمام ضغط يمارسه جمهور المواطنين الذي يدعو الى ترحيل المهاجرين الأفارقة غير النظاميين "بقوة القانون" من جهة و ضغط آخر تمارسه المنظمات المحلية والأوروبية ووسائل الإعلام الأجنبية التي لا تتردد في اتهام السلطات التونسية بعدم احترام حقوق المهاجرين عند تدخلها في البر أو البحر من جهة أخرى.

هجرة التونسيين إلى الخارج وتوافد المهاجرين غير النظاميين من أفريقيا جنوب الصحراء مشكلتان متوازيتان لا تربط بينهما سوى الهشاشة الاقتصادية والاجتماعية التي تعيشها تونس اليوم والسياسات الخاطئة التي اتبعتها على مدى سنين خلت حكوماتها المتعاقبة، وجعلتها طاردة للكثير من أبنائها وفي الوقت نفسه غير قادرة على تحمل أعباء المهاجرين الهاربين من حروب القارة الأفريقية وشظف العيش في بلدانها.

وكأنّ لسان حال الكثير من التونسيين اليوم يقول: المشاكل داخل حدودنا تكفينا ولسنا بحاجة لاستيراد مشاكل إضافية من الخارج.
 

اقرأ في النهار Premium