لا يرتاح هذا البلد، لكن أهله يبدون متأقلمين مع الهزات والأحداث مهما عظمت ودمرت الحجر والبشر. مدهش عبورهم كل المآسي التي تحل بهم وكأن شيئاً لم يحدث. بلد بأمه وأبيه أفلت من بين أيديهم وهم يتابعون على المنوال نفسه من عدم المحاسبة، ولا حتى الاكتراث بأن بعض ما يجري أخطر بكثير مما يتخيلون، ينطبق ذلك على السياسة والاقتصاد والاجتماع، وخصوصاً على القيم والأخلاق.
هز لبنان الأسبوع الماضي حدثان شغلا الرأي العام ووسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي، وطغيا على المشاغل السياسية والعسكرية والاجتماعية الأخرى الكثيرة والمتشعبة التي تجعل حياة اللبنانيين معاناة يومية مرهقة، رغم كل مظاهر الاحتفال وعراضات الأعراس والأفراح الدائرة في البلد. الحدث الأول هو فضيحة بكل معنى الكلمة. عصابة إتجار جنسي بالأطفال تمتد فروعها من لبنان إلى بلدان متعددة، "أبطالها" يتراوحون بين حثالة وضيعة وشخصيات مهنية ومن جنسيات لبنانية وسورية وتركية، إضافة إلى ما يمكن أن تكشفه التحقيقات لاحقاً. وجريمة قتل مروعة في فندق "بطلها" عامل (سوري) وضحيتها زميلته في العمل اكتشفت أسراره ونزواته فعذبها ورماها في مخزن الفندق لتفارق الحياة بعد نقلها إلى المستشفى بقليل.
حُكي وكُتب الكثير عن الحلاق الأصلع محرك العصابة وواجهتها وعن طبيب الأسنان وعن المحامي وعن مموّلها وغيرهم من عناصر العصابة، وعن تفاصيل مذهلة تقشعر لها الأبدان عن كيفية استدراج الأطفال واغتصابهم وابتزازهم والإتجار بصورهم وبفيديوات تصور عملية اغتصابهم على منصات ومواقع في العالم وعلى زبائن خصوصيين مهووسين بالجنس الطفولي. كما قيل الكثير عن جريمة الفندق في الروشة، خصوصاً أن مرتكبها سوري وأنه ضرب ضحيته ضرباً عنيفاً ورماها حية وهرب من الفندق إلى حيث يعتقد أنه أصبح في "أمان".
تطرح الفضيحة الأولى إشكالية الانفتاح غير المضبوط على مواقع التواصل الاجتماعي (هل هي اجتماعية فعلاً؟). قد يكون اللبنانيون من أكثر الشعوب استهلاكاً للمواد المنتشرة على "تيك توك" وغيره وكذلك من الأكثر نشاطاً. يجري ذلك من دون أي رقابة أو ضوابط. يدخل الطفل إلى "تيك توك" قبل أن يدخل إلى الحضانة، يعرف كل المواقع ويدخل إلى حيث شاء بلا حسيب أو رقيب، يبتسم له أهله ويتباهون بذكائه (ربما كان أذكى منهم) وبمعرفته بأسرار جهاز الهاتف أكثر من معرفتهم هم شخصياً. يدخل المراهقون والمراهقات إلى صفحات مجهولة لا يعرفون أصحابها وخلفياتهم، يتبادلون معهم الصور والقصص والأسرار، يدخلون في متاهات تعرّضهم للابتزاز أحياناً ولمشكلات عاطفية وسلوكية قد تدمر حياتهم ومستقبلهم. "الأذكى" من بينهم يغريهم المال فيتخلون عن أي عمل منتج ويتفرغون لتصوير أنفسهم في فيديوات تنكيت ورقص وحركات إيحائية وسعدنة، وتعر أحياناً، تجرهم إلى أماكن خطيرة قد تبدو العودة منها صعبة ومعقدة، كحال من يدخل في قضايا التجارة الممنوعة على الإنترنت ليحقق ثروة لا بد أن تضعه في مرمى القوى التي تراقب مثل هذه الأنواع من التجارة. ليس نجاح البعض في الاستفادة من هذه المواقع مادياً سبباً كافياً للانجراف في لعبة هي أشبه بالقمار.
الأدهى من الفلتان على مواقع التواصل يأتي من الإعلام التقليدي، التلفزيوني والإلكتروني حتى، حيث السباق على أشده على الرايتنغ. الرايتنغ لا يعترف إلا بعدد المشاهدين بغض النظر عن المضامين. المجتمع بالنسبة إلى هذا الإعلام هو مجرد أرقام تفتح "اللينك" أو تضغط على زر المحطة في "الريموت كونترول". وعليه يصبح غريبو الأطوار والتافهون وشذاذ الآفاق وأدعياء الفن والمعرفة وضاربو المندل وجامعو الأعشاب البرية وما شاكلهم نجوم سهرات التلفزيون التي تتبارى في من هو الأسخف.
شاشات التلفزيون تستضيف كل هذه الأصناف وتمنحها ساعات من الهواء لتفرغ ما عندها من هراء يصل بالمشاهد الحصيف إلى حد التقيؤ.
الحدث الثاني، جريمة الفندق، تطرح قضية تفشي العنف الإجرامي، والخطير فيها أنها تدفع إلى صدام لبناني سوري قد يكون أخطر مما يتصوره أهل السياسة والأمن في لبنان، فجريمة كهذه لا تمر من دون استثمار فيها إلى الحدود القصوى يعززه الإفلات من العقاب وهروب الجاني إلى سوريا عبر الحدود الفلتانة في أكثر من مكان. هي جريمة قد يرتكبها لبناني أو أي شخص من أي جنسية، لكن الحساسية تجاه السوري تضعها في مكان أكثر تهييجاً للرأي العام ضد السوريين عامةً.
في دولة متلاشية، في السياسة قبل أي شيء آخر، تمر الفضائح والجرائم كأنها تحصل في بلاد الواق واق.