كان على رفح المدينة الصغيرة في أقصى جنوب فلسطين، التي تقع على حافة صحراء سيناء على بعد 107 كم من القدس ويصل أحياءها الداخلية الهواء الذي سخّنته الرمال ويزوبع الرمل على عتبات بيوتها ونوافذها، المدينة التي قسمتها اتفاقيات كامب ديفيد إلى رفح مصرية ورفح فلسطينية، وبعثر خط الحدود والأسلاك الشائكة الذي اقترحته الاتفاقية عائلاتها ودمر مركز المدينة، كان عليها أن تتحمل كل هذا، وأن تتهيأ لمستوى من مستويات الإبادة بعدما أدت دورها في الحرب الإسرائيلية المتواصلة على قطاع غزة كملجأ، غير آمن، لمجاميع الناس المهجرين الذين وصلوا من مدن الشمال والوسط ومناطقهما.
المدينة الكنعانية الصغيرة التي مرت بها جيوش الإمبراطوريات القديمة وسمّاها الأشوريون "رفيهو"، الاسم الذي نحته العرب إلى "رفح"، وعبرت من تخومها عربات الرعاة الهكسوس في طريقهم إلى مصر، ومر بها نابليون في طريقه إلى عكا، ها هي تواصل مهمتها كحافة لكل شيء.
على حافة رفح يتعلق، إضافة إلى نتنياهو الذي وصل إلى الأرض الأخيرة بلا ريش، الجيش الذي لا يريد أن يصدق أن هذه الحرب انتهت في عشية السابع من تشرين الأول (أكتوبر) الماضي، وأنها كانت حرب اليوم الواحد، وأن ما يحدث منذ ذلك التاريخ هو إبادة، والضباط الذين يبحثون في حقل القتل المفتوح والمقابر الجماعية المترامية عن إنجاز في مواجهة تسونامي المحاسبة والتحقيقات الذي بدأ بالفعل، اليمين بتلاوينه وتدرجاته الفاشية، الذي بات يعرف الآن عبر تدفق استطلاعات الرأي وتظاهرات الشوارع وتعثر الجيش في غزة والشمال، وعشرات آلاف العائلات التي نزحت من مستوطنات الجنوب والشمال نحو الوسط المزدحم، يعرف هذا اليمين أن العودة إلى الحكم لم تعد واردة، وأن انقلاب انتخابات 1977 التي جاءت بمناحيم بيغن على خرائب حزب العمل المهزوم في حرب تشرين، قد انتهى تماماً، وأن الوقت يتسرب بقوة.
مهمة رفح هي توفير الوقت بانتظار معجزة "النصر المطلق" بحسب تعبير نتنياهو المتكرر وتقمصه في أداء هزلي لخطاب تشرتشل ومصطلحاته ونبرته ووقفته.
رفح، بالنسبة إلى نتنياهو، هي إدامة الحرب على الفلسطينيين بوتائرها المنخفضة القابلة للتصعيد، انخفاض يحافظ على دموية الحرب التي تغذي نزعة الانتقام لدى اليمين وشرائح واسعة من المجتمع الإسرائيلي، ويضمن في الوقت نفسه مساحة للمناورة والضغط، ووضع احتجاجات الشارع في مواجهة مع مصالح الدولة العليا والجيش الذي يدافع عن وجودها.
حصل بنيامين نتنياهو في اليوم الرابع عشر بعد المئتين على فناء خلفي في مبنى معبر رفح على الحدود المصرية، ورفع جنود الجيش علم إسرائيل على سارية في الساحة، كل شيء كان معداً للتصريح الذي سيلي رفع العلم، الصور وحجم العلم الذي حمله جنود جفعاتي، في ما يشبه أمراً يومياً، بحيث يبدو التصريح الإعلامي الذي سيلقيه رئيس الوزراء بنفسه أقرب إلى تعليق مدروس أو سيناريو معد بعناية للقطة مفصلية من فيلم وثائقي طويل.
بيان الجيش المحشو بمصطلحات النصر والثقة الذي ردده نتنياهو، "سيطر الجيش على المعبر بالكامل"، ساعد في رسم المشهد الذي شهده الفناء الخلفي للمعبر أو الساحة كما هو متداول، حيث كانت تتجمع عربات نقل أمتعة المسافرين، عربات رديئة الأداء وسيئة الصيانة في الغالب.
العلم الذي أعاده الجنود يذكرني بيوم صيفي قائظ من الأسبوع الرابع من تموز (يوليو) 1994، حين كنت ضمن دفعة من كوادر منظمة التحرير الذين حصلوا على أرقام وحملوا أسماءهم الرباعية وصعدوا بحقائب خفيفة إلى طائرة النقل العسكري السعودية في مطار قرطاج في تونس إلى العريش ثم المعبر في طريقهم إلى رفح الفلسطينية، هناك علقنا لأيام بسبب اشتباكات مفاجئة على معبر بيت حانون/إيريز شمال القطاع بين حرس الرئاسة وفرقة الـ17 الشهيرة من جهة، وجيش الاحتلال من جهة ثانية.
في ذلك الزمن، الذي يبدو بعيداً الآن وغير حقيقي، كان البناء أصغر وأبسط ومتقشفاً بشكل مؤلم، ولكن الساحة كانت موجودة، كذلك عربات نقل الأمتعة المتهالكة، وكان هناك علم ولافتات بالعبرية، وفي الممرات مجندات متنمرات وجنود يشهرون السلاح على كل شيء؛ النخل والناس والطيور والحقائب.
الآن تصل الحرب بحمولاتها الثقيلة إلى الحافة وهي تلهث مثل ذئب فقد حواسه واحتفظ برغبة الدم.