النهار

سياسات الهجرة في تونس: التّصويب عكس اتّجاه الهدف
أحمد نظيف
المصدر: النهار العربي
تعي السلطات التونسية جيداً أن فكرة "التوطين" التي تروج في وسائل الإعلام وفي السردية الرسمية غير واقعية، وإنما هي أداة لتخويف السكان والتحريض على المهاجرين، لأن المهاجر الذي قطع ألاف الأميال نحو السواحل الشمالية لإفريقيا لا يريد البقاء في تونس، ولكن وجهته الرئيسية هي أوروبا.
سياسات الهجرة في تونس: التّصويب عكس اتّجاه الهدف
مهاجرون أفارقة في تونس( من الارشيف)
A+   A-
عادت أزمة الهجرة لتتصدر المشهد في تونس. قبل يومين ظهر الرئيس قيس سعيد، خلال اجتماع لمجلس الأمن القومي، ليصف تدفق المهاجرين من دول أفريقيا جنوب الصحراء على البلاد بـ"غير الطبيعي". وقد ترافق ذلك مع عودة حملات التحريض على المهاجرين في وسائل التواصل الاجتماعي. يأتي ذلك أياماً قليلةً بعد زيارة رئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني تونس، وتوقيعها على ثلاث اتفاقيات تشمل مساعدات بقيمة 50 مليون يورو، يستهدف بعضها مكافحة الهجرة من السواحل التونسية نحو إيطاليا. وتعتبر تونس إحدى نقاط الانطلاق الرئيسية، إلى جانب ليبيا، للهجرة غير النظامية نحو إيطاليا. وفي عام 2023، اختفى، أو مات، ما لا يقل عن 1313 شخصاً غادروا الساحل التونسي في البحر الأبيض المتوسط. وكان ثلثا هؤلاء الضحايا على الأقل من أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى.
 
لكن التحول اللافت في تجدد الأزمة اليوم، هو المقاربة التي تسلكها السلطات التونسية في معالجتها، إذ تحفظت النيابة على سعدية مصباح وهي ناشطة بارزة ورئيسة منظمة تناهض العنصرية وتدافع عن حقوق المهاجرين، بعد ساعات من اتهام الرئيس سعيد بعض منظمات المجتمع المدني بالخيانة. وشرعت في تتبع بقية المنظمات والجمعيات والنشطاء العاملين في مجال الهجرة. فقد هاجم الرئيس سعيد في خطابه أمام مجلس الأمن القومي صراحةً الجمعيات والمنظمات التي بحسب قوله تتلقى "مبالغ فلكية من الخارج وتتذمر وتذرف الدموع في وسائل الإعلام، وأغلب قادتها خونة ومرتزقة". واتهم الرئيس المنظمات التي تدافع عن حقوق المهاجرين بأن "الأموال تتدفق بحرية على هؤلاء الأشخاص وأولئك الذين يدعون أنهم يدافعون عنهم".
 
منذ أكثر من عام حدد الرئيس التونسي رؤيته حول الهجرة مختصراً إياها في "مؤامرة لتغيير التركيبة الديموغرافية للبلاد". وقال إنّ "الهدف غير المعلن للموجات المتلاحقة من الهجرة غير الشرعية هو اعتبار تونس دولة أفريقية فقط، لا انتماء لها إلى الأمتين العربية والإسلامية". وأشار إلى "ترتيب إجرامي تمّ إعداده منذ مطلع هذا القرن لتغيير التركيبة الديموغرافية لتونس" من أجل "توطين المهاجرين غير النظاميين من أفريقيا جنوب الصحراء" في البلاد.
 
ضمن هذا التصور البسيط لمسألة معقدة مثل الهجرة، والتي تنطوي على أبعاد تاريخية وجيوسياسية ومناخية واقتصادية، وضع الرئيس التونسي سياسة بلده لمجابهة الأزمة. وأساساً من خلال القضاء على "عناصر المؤامرة" كما تُقدَّم في السردية الرسمية وهي تفكيك المنظمات العاملة في مجال الهجرة. وهو ما يبدو تصويباً في اتجاه هدف وهمي، لا سيما أن التدفق الأكبر لهؤلاء المهاجرين يأتي من الحدود الجزائرية. وقد صرح الرئيس سعيد قبل يومين بأن بلاده ''تقوم بالتنسيق المستمر مع الدول المجاورة لمواجهة الوضع بطريقة مختلفة لأنه لا يمكن أن يستمر". لكنه بدلاً من أن يتوجه إلى حليفه الجزائري لمجابهة الأزمة، يصوّب نحو المجتمع المدني. 
 
أما البعد الثاني من سياسة الهجرة التونسية الحالية فهو العمل تحت سقف التفويض الأوروبي لإدارة الحدود الخارجية للاتحاد الأوروبي. أي تنفيذ سياسات منع المهاجرين من المرور إلى أوروبا وتفكيك المجتمع المدني الداعم للمهاجرين، وهي سياسات لا يبدو الاتحاد الأوروبي قادراً على القيام بها لأسباب قانونية وحقوقية ولوجستية. لكن هذا الجانب تعترضه العديد من العوائق، التي تتعلق أساساً بغياب الإجماع الأوروبي حوله، والذي يمكن أن يكون مهدداً بالتوقف وفقاً لما ستكشف عنه الانتخابات الأوروبية في حزيران (يونيو) القادم.
 
فقد أعلن نيكولا شميت، رئيس القائمة الاشتراكية الأوروبية للانتخابات،  والمفوض الأوروبي الحالي المكلف العمل والحقوق الاجتماعية، أن الاتفاقيات التي تبلغ قيمتها ملايين اليورو والتي وقعها الاتحاد الأوروبي مع الدول المجاورة للحد من الهجرة غير الشرعية تجب "مراجعتها"، مشيراً إلى أن هذه الاتفاقيات لم تثبت فعاليتها بعد، ومتهماً السلطات التونسية بأنها تعامل اللاجئين والمهاجرين معاملة سيئة للغاية.
 
تعي السلطات التونسية جيداً أن فكرة "التوطين" التي تروج في وسائل الإعلام وفي السردية الرسمية غير واقعية، بل هي أداة لتخويف السكان والتحريض على المهاجرين، لأن المهاجر الذي قطع آلاف الأميال نحو السواحل الشمالية لأفريقيا لا يريد البقاء في تونس، ولكن وجهته الرئيسية هي أوروبا. ذلك أن الوضع الاقتصادي في تونس لا يقل سوءاً وصعوبةً. لكن التجمع الكبير للمهاجرين في تونس سببه الرئيسي هو تشديد سياسات الهجرة الأوروبية، فالسواحل التونسية تقدم العديد من المزايا للأفارقة من جنوب الصحراء الكبرى باعتبارها منطقة للمغادرة غير المنتظمة إلى إيطاليا: خط ساحلي طويل على بعد مسافة قصيرة من إيطاليا، مقارنة بليبيا، مع شبكة كثيفة من موانئ الصيد الصغيرة والمحال التجارية التي تقع على مسافة ليست بعيدة عن المدن الساحلية الكبيرة، وتوفير فرص العمل والإقامة لتحضير المعابر السرية إلى إيطاليا، إذ تسمح الكثافة السكانية والتحضر والأنشطة على طول الساحل التونسي، بسهولة الحركة والتجارة للمواطنين والأجانب. لذلك فإن الأزمة التي تعيشها تونس من تجمع كبير للمهاجرين الأفارقة من جنوب الصحراء، والاحتكاكات والتوترات مع المواطنين، ليس سببها المنظمات المدافعة عن حقوق هؤلاء، ولا وقوف هؤلاء المهاجرين وراء مؤامرة لتغيير التركيبة الديموغرافية للبلاد، بل توظيف الاتحاد الأوروبي تونس حاجزاً فاصلاً بينه وبين تدفقات الهجرة مقابل مزايا اقتصادية وسياسية. والحل الأساسي لهذه الأزمة يكمن في إعادة صوغ جديدة بين تونس والأوروبيين وبين الدول الأفريقية وأوروبا وبين الدول الأفريقية نفسها. فالهجرة ليست إلا تجلياً لعلاقات القوة المختلة.

اقرأ في النهار Premium