تشهد الساحة اللبنانية سخونة وتوترات على محاور عدة، وكأن البلد يتجه نحو عاصفة مكتملة الأوصاف رغم الجهود الدولية وبعض المساعي الداخلية للحؤول دون ذلك. وعند مراجعة عناوين هذه الملفات أو المحاور الساخنة، يبدو للوهلة الأولى أنها مستقلة بعضها عن بعض. ولكن عند التعمق بها تظهر نتيجة لا لبس فيها وهي أنها باتت مترابطة بحكم ضعف الحكومة وهيمنة "حزب الله" ومن خلفه إيران على القرارات المصيرية للبنان. وأخطر ما في الموضوع هو وصول درجة الثقة بفائض القوة حداً لا يشعر فيه الحزب ومعظم حلفائه بحجم الخطر الوجودي الذي يواجه لبنان اليوم وجديته، ويصر على أنه صاحب رؤية بعيدة وتأثير إقليمي، وبالتالي قادر على أن يقوم وحيداً وبالتنسيق مع طهران بالمناورة لحماية نفسه والبلد.
يواجه لبنان اليوم أربع مشكلات خطيرة، وهي: الحرب في جنوب لبنان وإمكان انزلاقها إلى حرب شاملة مع إسرائيل؛ أزمة النازحين السوريين التي وصلت إلى مستويات غير مسبوقة مع تخطي عددهم المليوني شخص؛ أزمة اقتصادية ازدادت تفاقماً مع تداعيات الحرب في الجنوب على قطاعي الاستثمار والسياحة وفشل إقرار تشريعات لإصلاح القطاع المصرفي؛ فشل انتخاب رئيس جديد للجمهورية، ما يؤدي إلى ازدياد الفراغ في دوائر القرار وتعطيل المؤسسات وتكريس لبنان في المحافل الدولية كدولة فاشلة.
فتحت جبهة الجنوب بقرار من "حزب الله" ضمن ما يعرف باستراتيجية توحيد الساحات لمحاولة تقديم دعم عسكري إلى "حماس" في غزة من أجل إنقاذها. فالحركة ومعها "حركة الجهاد الإسلامي" تنتميان إلى محور الممانعة الذي تقوده إيران. إخراجهما من المعادلة وتدمير قدراتهما العسكرية في غزة سيؤدي إلى فقدان طهران الجبهة التي ساعدت على إنشائها على حدود إسرائيل الجنوبية، وإلى إضعاف تأثيرها على الملف الفلسطيني. لكن فتح الجبهة في جنوب لبنان لم يمنع إسرائيل من اجتياح قطاع غزة اجتياحاً شبه كامل. كما أنه جر "حزب الله" إلى حرب استنزاف ألحقت به خسائر كبيرة، وتستمر بالتراكم يومياً. فرغم إعلان الحزب مراراً التزامه قواعد الاشتباك لمنع انزلاق المواجهة إلى حرب شاملة مع إسرائيل، إلا أن الأخيرة لا يبدو أنها ملتزمة قواعد اشتباك وتقوم بقصف أينما أرادت ومتى شاءت في البقاع وجنوب لبنان. وتقدر الخسائر المباشرة وغير المباشرة لهذه الحرب بالمليارات، بالإضافة إلى سقوط أكثر من 300 قتيل وتهجير حوالى ثمانين ألفاً من سكان الجنوب. خسائر إسرائيل البشرية تقدر بخمسة في المئة فقط من خسائر الجانب اللبناني. ولقد عطل "حزب الله" الجهود الدولية لإيجاد حل دبلوماسي للحرب في الجنوب مشترطاً وقف إطلاق النار في غزة أولاً.
لكن تقارير بعض الصحف الإسرائيلية والأميركية تتحدث عن سعي رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إلى إطالة زمن الحرب قدر المستطاع لتجنب المحاسبة على أحداث السابع من تشرين الأول (أكتوبر) الفائت. ويسعى نتنياهو للعمل مع أحزاب اليمين المتشددة لتعطيل فرص وقف إطلاق النار والاستمرار في الحرب بهدف تحقيق أهداف عدة وضعوها بغض النظر عن واقعية تطبيقها. وهم يتحدثون عن أن حرب غزة ستحتاج إلى بضع سنوات لتحقيق أهدافها، ولذلك رفضت الحكومة الإسرائيلية أي بند يتحدث عن وقف الحرب في المفاوضات مع "حماس"، وتصر على استخدام كلمات مثل هدنة أو وقف إطلاق النار لتبادل الأسرى. كما أنهم يصرون على شروط صعبة في ما يخص وقف القتال على الجبهة اللبنانية لإبقاء أجواء الحرب التي تخدم أجندة اليمين الإسرائيلي. وبناءً عليه، إذا ما جمعنا بين موقف "حزب الله" من البدء بالتفاوض لوقف الحرب في الجنوب مع إنهاء حرب غزة، بسعي نتنياهو وقوى اليمين لإبقاء حرب غزة مفتوحة، فالنتيجة هي أن حرب الاستنزاف في جنوب لبنان ستطول إلى أجل غير معروف، ما يعني تراكم الخسائر البشرية والمادية يومياً وتعاظم تداعياتها.
أما ملف النازحين السوريين فيواجه تحديات كبيرة، أهمها إصرار القوى الغربية على إبقائهم في لبنان بانتظار التوصل إلى حل سياسي في سوريا. لكن الحل في سوريا صعب بسبب الدور الإيراني هناك والذي يسعى لإحداث تغيير ديموغرافي بحيث تصبح المناطق الممتدة على طول الطريق من دير الزور حتى الساحل السوري والحدود اللبنانية مروراً بدمشق ذات غالبية شيعية. وتتحدث تقارير المعارضة السورية عن عمليات توطين لمقاتلين شيعة من أفغانستان وباكستان والعراق في تلك المناطق. وبالتالي، فإن إيران والنظام السوري لن يسمحا بعودة النازحين من تلك المناطق إلى منازلهم إذا تم التوصل إلى اتفاق مع الغرب بمساعدة أطراف عربية، بل يرجح أن يتم ترحيلهم إلى مناطق في الشمال والشرق لتحجيم الوجود الكردي والحد من خطر استقلاله مستقبلاً.
لذلك، لن يسمح "حزب الله" بأي حلول عملية مثل نقل النازحين إلى المناطق المعزولة على طول الحدود اللبنانية-السورية في البقاع أو الشمال. فهو لا يريد إبقاءهم في أماكن قد تؤثر على حرية تحرك قواته من الأراضي السورية وإليها. كما أن الحزب لو أراد ترحيل السوريين الآن، فهو لن يستطيع ذلك من دون موافقة النظام الذي يجد فيهم ورقة مساومة قيّمة مع الغرب. ولقد تحدثت العديد من المقالات والدراسات عن المخاطر المترافقة للوجود السوري غير المنظم في لبنان، وهي تتراوح بين تهديدات أمنية ووجودية.
لم تسفر جهود إدخال إصلاحات على القطاعين المصرفي والمالي عن أي نتائج رغم الاجتماعات التي عقدت واللجان التي شكلت نيابياً وحكومياً لتحقيق ذلك منذ 2019. وهي شروط وضعها صندوق النقد الدولي لتفتح الطريق لمساعدات مالية وقروض للبنان لتساعده على الخروج من الضائقة المالية وتشجيع الاستثمارات الأجنبية. هذه الإصلاحات ستحد كثيراً من التعامل في الكاش وتمنع نظام الحوالة الذي لا يخضع للرقابة الدولية، وهذا لا يناسب جهات عديدة في لبنان وأهمها "حزب الله". ولا يبدو أن هناك أي حلول قريبة لهذه المشكلة التي تبقي الاقتصاد اللبناني في وضع صعب.
فشلت الوساطات الدولية في إحداث خرق داخلي يمكن مجلس النواب من انتخاب رئيس جديد للجمهورية. ولقد أدى ذلك إلى فراغ دستوري وخلو العديد من المناصب الرسمية وشلل في بعض المؤسسات. كما يؤثر هذا على وحدة الصف الداخلي كونه يزيد من مخاوف القوى المسيحية التي تعتبر فراغ الكرسي الرئاسي انتقاصاً لدورها في تقاسم الحكم. ولم يعد خافياً دور "حزب الله" في تعطيل هذا الاستحقاق وإصراره على مرشح واحد يحمي "المقاومة." وقرر الحزب أن ملف الرئاسة يجب أن يرحل إلى بعد انتهاء حرب غزة، أي لأجل غير مسمى بحكم الواقع الحالي للحرب هناك.
هذه الملفات الأربعة أعلاه تشكل مجتمعة تهديداً لن يستطيع أحد، لا سيما "حزب الله" وإيران، التنبؤ بتطوراتها وتداعياتها لأنها تجعل الساحة اللبنانية مكشوفة على تهديدات عدة. فماذا لو شنت إسرائيل هجوماً برياً مع قصف استراتيجي يؤدى إلى عمليات نزوح كبيرة، تفاقم النزوح السوري؟ ماذا لو قام طابور خامس في الوقت عينه بافتعال مشكلات تؤدي إلى اشتباكات مسلحة بين نازحين سوريين ومواطنين لبنانيين شيعة ومسيحيين؟ ماذا لو تعمدت إسرائيل إحداث دمار هائل في البنية التحتية اللبنانية؟ ماذا لو قامت إسرائيل بتكرار سيناريو شمال قطاع غزة بتدمير الأبنية وتهجير المواطنين من جنوب لبنان؟ هذه عينة من أسئلة حول سيناريوهات عديدة محتملة قد تشهدها الساحة اللبنانية مستقبلاً، ولا أحد من المسؤولين يطرحها لأن قرار الحرب والسلم وحل الملفات العالقة بيد جهة واحدة هي "حزب الله" (وطبعاً إيران). هذه مسؤولية كبيرة ذات أبعاد خطيرة اختار "حزب الله" اليوم أن يحملها على عاتقه. هل شركاؤه يدركون حجم الوزر ودورهم فيه؟ الوضع في لبنان اليوم كغيوم إعصار كبير تتجمع من اتجاهات عدة لتشكل عاصفة كاملة. من مستعد لها؟