يرفع سكان شمال إسرائيل أصواتهم عاليًّا ضد الحكومة الإسرائيليّة، بسبب عجزها عن إعادتهم، بسرعة معقولة، الى بلداتهم التي تمّ إجلاؤهم عنها، في ضوء قرار "حزب الله" ضمّ الجبهة اللبنانية، على قاعدة "المساندة والإشغال" الى حرب "طوفان الأقصى"، ولكن، في المقابل، لماذا يصمت سكان الجنوب الذين يعانون الأمرّين، في أرواحهم وممتلكاتهم وحقولهم ومزارعهم ونزوحهم، على واقعهم المأساوي؟
لفهم هذا الواقع، لا بد من لفت الإنتباه الى وجود ثلاث فئات في الجنوب اللبناني. الفئة الأولى هي التي تناصر "حزب الله" ظالمًا كان أو مظلومًا.
وهذه الفئة، مع أنّها أقليّة، تتمتع بقوة هائلة بالمقارنة مع واقع السكان الآخرين، إذ إنّها تملك المال والسلاح والمؤسسات المحليّة ووسائل الإعلام.
أمّا الفئتان الباقيتان، فهي تتوزع، وفق الصورة الآتية": واحدة تعتبر أنّ لا صوت يعلو فوق صوت المعركة، وبالتالي لا يجوز أن تعترض على ما يقوم به "حزب الله" في أثناء الحرب. والفئة الثانية لجأت الى التقوقع، بعدما صدمها الواقع. حاولت هذه الفئة، في وقت سابق، أن ترفع الصوت، فتعرّضت للترهيب، بحيث لم يتم حل لغز مقتل الياس حصروني في عين إبل، إذ بقيت "المشاعر الإتهامية" تتمحور حول "حزب الله" الذي أثبت أنّه، بالفعل والقول، فوق القانون. ولم تنجح محاولات اللجوء الى المرجعيات الوطنية والروحية، إذ إنّ بكركي بعدما حملت قضيتهم، سرعان ما صمتت عنها، بعد حملة التخوين التي استهدفت البطريرك الماروني الكاردينال بشارة الراعي، عندما قال في واحدة من خطبه ما يشكو اليه سكان الجنوب من مسيحيين ومسلمين، في وقت نقلت فيه المرحعيات السياسية والوطنية معركتها من وجوب إخراج الجنوب اللبناني من محنته الى معركة "أقل كلفة عليها وأكثر ربحيّة" تتمثل بوجوب إخراج النازحين السوريين من لبنان.
الفئة الأولى الموالية لـ"حزب الله" تُعرب في مجالسها الخاصة عن استيائها الكبير من الحزب الذي كان قد شجعها على البناء والاستثمار جنوب نهر الليطاني، بعد العام 2006، على قاعدة أنّ إسرائيل لن ترميهم بوردة، بعد "هزيمتها المذلة" ونجاح الحزب في إقامة "نظام الردع" وفرض "قواعد اشتباك" لمصلحته.
وتذكّر هذه الفئة بأنّ "حزب الله" خاض الإنتخابات النيابية الأخيرة تحت شعار محوري هو " باقون نحمي ونبني"، وكانت ماكينته الإنتخابية تهزأ من كل شخص يُعرب عن اعتقاده بأنّ إبقاء همينة "حزب الله" على الجنوب سوف يقود، عاجلًا أو آجلًا، الى حرب تعيد تدمير كل ما بُني وهدر كل ما استُثمر، معتبرة أنّ اللهجة العالية التي يتحدث بها قياديو "حزب الله" ضد إسرائيل، هدفها الوحيد، "تذكير العدو بما يسمح باستمرار حماية ما يُبنى، أي الردع القائم على احترام قواعد الإشتباك". وكان هؤلاء يقولون للجنوبيّين: "ثقوا بنا، فنحن أبناء الواعد الصادق" ( في إشارة واضحة الى الأمين العام ل"حزب الله" حسن نصرالله).
لكنّ كل هذه الطمأنينة التي عمّمها "حزب الله" لسانيًّا، تبددت ميدانيًّا، منذ الثامن من تشرين الأول (أكتوبر) الماضي.
لا تُواسي هؤلاء الجنوبيّون المعاناة التي يمر بها "جيرانهم- الأعداء"، إذ إنّ المقارنة بين المجموعة اللبنانية، من جهة والمجموعة الإسرائيلية، من جهة أخرى يزيد الغضب اللبناني، ف"الجيران الأعداء" يملكون حرية الإنتقاد والمعارضة والشكوى والصراخ، على الرغم من أنّ رعايتهم، بالمقارنة، مع رعاية المنكوبين اللبنانيين، لا تُقارن، في حين أنّ أبناء الجنوب اللبناني محكومون إمّا بالتهليل ل"حزب الله" والتمجيد بالخسائر و"الزلغطة" للشهداء، وإمّا بالإلتزام ب"صمت القبور".
أمّا الفئة الثانية، أي تلك التي تميل الى رفع الصوت في وجه "حزب الله"، فوجدت نفسها تعاني الأمرّين، إذ إنّه، بعد رعاية دينية وسياسية ووطنية، تُركت وحيدة، بحيث تخلّى الرعاة عنها، بأسرع من المتوقع، فهموم "قلب لبنان" تفوّقت على مآسي "أطرافه"، كما هي عليه العادة في تاريخ دولة لبنان.
وبالفعل، ففي وقت أدى فيه اغتيال الياس حصروني في عين إبل الى تراجع نوعي في الإهتمام الوطني بمآسي أبناء الجنوب، دفع اغتيال باسكال سليمان في جبيل الى تركيز الجهود والطاقات والإمكانات على ملف النازحين السوريين.
وهكذا بات موضوع الجنوبيّين هامشيًّا جدًّا، وتمّ تركهم لقدرهم، بحيث نجحت ماكينة "حزب الله" في احتواء الجميع، فمن بقوا في بلداتهم، عليهم أن يحموا أنفسهم بالصمت والخضوع، ومن تركوها، عليهم أن يفكروا بأمان اليوم الذي سوف يعودون فيه!
بناء عليه، تصبح خلفية صمت جميع الأطياف في الجنوب واضحة، فهؤلاء لا يخشون من القدرة التدميرية لإسرائيل، فحسب بل من ألسنتهم، أيضًا!