خلال مشاركتي في ملتقى أقسام اللغات والدراسات الشرقية في كلية الآداب في جامعة طنطا المصرية، من أجل مراجعة الأهداف القومية لهذه الأقسام، تقدمت بمقترح لتوسيع دائرة الاهتمام بلغات وآداب شرقية أخرى مثل الكُردية والأرمينية، على غرار اهتمامنا بالسريانية والحبشية (الأمهرية).
وهناك التقيت الكاتب الصحافي في "الأهرام" المصرية، فتحي محمود الذي أطلعني على كتابه حول العلاقات العربية الكردية الذي ركز على مستقبل الحوار العربي-الكردي، وأولوية هذا الحوار في الوقت الراهن، إنْ كانت منطقتنا العربية تبحث عن مستقبل لها في ظل تحولات الجغرافيا السياسية والحديث عن بناء شرق أوسط جديد.
كذلك التقيت السيدة ليلى موسى، ممثلة مجلس سوريا الديموقراطية (مسد) في القاهرة، الذي يمثل الجناح السياسي لـ"قوات سوريا الديموقراطية" (قسد)، ويطالب بحل ديموقراطي للقضية الكردية ومنح مناطق شمال سوريا وشرقها حق الإدارة الذاتية.
بذلك التقيت بشخصيتين متمايزتين، واحدة مصرية عربية تمثل لي كيف نرى الكرد، والأخرى سورية كردية تمثل لي كيف يرى الكرد أنفسهم.
وبنظرة واقعية، فإن أوضاع منطقتنا العربية تستدعي حالياً إعطاء الأولوية لذلك الحوار بين العرب والكرد، إذا ما أردنا أن يكون لها مستقبل في وقت تتسارع فيه القوى المحيطة بنا نحو مشاريعها الإقليمية.
خريطة جيوسياسية جديدة
إن منطقتنا بمكوناتها المتعددة تواجه مصيراً مشتركاً، ولم يعد الحديث اليوم عن بعثٍ قومي، بل عن جغرافيا سياسية جديدة تضع المنطقة على خريطة التجارة والنقل الدولي، فإن كانت إسرائيل، وهي العدو، لا تزال تهرول وراء الاتفاق الإبراهيمي من أجل تحقيق سلام قائم على مصالح اقتصادية وممرات تجارية تربط بين الشمال والجنوب والشرق والغرب، فإنه لا مستقبل لنجاح التنمية في منطقتنا العربية من دون حل قضاياها السياسية، ومنها القضية الكردية التي هي قضية أمنية قبل أي تعريف لها. ليس بمعنى أن نَحذر الحديث عنها أو أن نعالجها في إطار أمني، ولكن المقصود أن أمن الجيوسياسية الجديدة يحتاج إلى تحقيق الاستقرار المستدام على الأرض، وذلك بمعالجة التهديدات الأمنية في المناطق الإثنية، التي هي في معظمها مناطق عبور واتصال حدودي، فليس من المقبول الالتفاف حدودياً حول أقاليم مناطق الأقليات مثل الكُرد، بل يجب أن تدخل تلك المناطق ضمن مشاريع التنمية المستدامة.
إننا نواجه عصر نضوب الطاقة وارتفاع كلفتها، الأمر الذي أعادنا إلى الاهتمام بالممرات البرية والسكك الحديدية، في ظل ارتفاع تكلفة النقل البحري وتأخر سلاسل الإمداد، وهو أمر إيجابي؛ لأنه يدفعنا إلى إعادة اكتشاف جوارنا ومحيطنا الذي انعزلنا عنه. ويدفعنا أيضاً إلى معالجة أزمات المناطق الإثنية، لا سيما الكردية لكبر حجمها الجغرافي والديموغرافي، التي أصبحت مناطق نفوذ واستقطاب للقوى الخارجية.
فإذا نظرنا إلى الخريطة الجغرافية، نجد أن مناطق الكرد تقع على نقاط اتصال دولِ إيران وتركيا وسوريا والعراق، وأن عددهم يتجاوز 40 مليون نسمة، ولديهم تاريخ كبير من الصراعات السياسية والإثنية، ما يعني أن استمرار الأزمة في مناطقهم، يعني أنه لا مستقبل لأي تنمية مستدامة في منطقتنا، بينما معادلة العالم المتحضر اليوم تقوم على فلسفة تجاوز الصراع والتعايش على مبدأ القواسم والمصالح المشتركة.
تجربة كردستان العراق
تدل الشعارات التي يرفعها الكُرد في سوريا إلى رغبة في تجاوز الأخطاء التي وقع فيها إقليم كردستان العراق، وإن كان الأمر لا يزال في إطار التنظير مثل الحديث عن أولوية الحل الديموقراطي والإصرار عليه.
إن حالة الاستقطاب لدى كردستان العراق تجاه إسرائيل أو إيران أو تركيا، لا تدل إلى أن الإقليم العراقي قد استطاع أن يتجاوز أزماته، بل تحول إلى لعبة في يد مصالح القوى المنافسة للعرب، ما جعل ذلك الإقليم لا يكسب سوى المزيد من توجس العرب، فقد كان الرئيس التركي، رجب أردوغان، يأتي بالزعيم الكردستاني مسعود بارزاني، إلى مدينة ديار بكر التركية من أجل كسب أصوات سكانها الكرد في الانتخابات، أي إن أربيل كانت ولا تزال تتقارب مع أنقرة في إطار الضغط على الحكومة المركزية في بغداد، بدلاً من إصلاح العلاقة معها.
ولقد انعكست مخاطر الاستقطاب الخارجي على الداخل الكردستاني نفسه، فإننا لا نسمع إلا عن حزبين رئيسين في ذلك الإقليم هما: الديموقراطي الكردستاني، بقيادة عائلة بارزاني، متمركزاً في محافظتي أربيل ودهوك، والاتحاد الوطني الكردستاني بقيادة عائلة طالباني، متمركزاً في محافظتي السليمانية وحلبجه، بينما هناك أحزاب كردية أخرى لا نسمع عنها، لكنه الاستقواء الخارجي والحفاظ على روح القبلية، ما أدى في النهاية إلى بيوت سياسية ثابتة، تجعل من تجربة الديموقراطية في كردستان العراق مجرد وهم، وتجعل أيضاً من كردستان العراق صورة مصغرة لعراق صدام حسين أو أي نموذج ديموقراطي فاشل في المنطقة، مهمته ألا يتجاوز دائرة الصراع مع محيطه، بدلاً من التركيز على التعايش والمصالح المشتركة.
وإذا نظرنا إلى الزيارة الأخيرة لرئيس حكومة كردستان العراق نيجيرفان إدريس مصطفى بارزاني لطهران، نجدها بمثابة استقواء بالجانب الإيراني للضغط على حزب منافسه، الاتحاد الوطني، وكذلك للضغط على بغداد من أجل تعطيل انتخابات برلمان كردستان، وذلك بطلب من الديموقراطي الكردستاني، الذي يمثل الحزب الحاكم، وهو ما تحقق فعلياً بعد قرار مفوضية الانتخابات الاتحادية تعليق العمل بإجراءاتها الفنية والمالية الخاصة بالإقليم، ما يعني تغيير موعد الانتخابات.
هذه التجربة تكشف لنا أن كردستان العراق يعيش في فلك المعادلة الاستبدادية القديمة، أن القوي يسود، وأن عامل القبيلة والعرق له التفوق، وأن الأحزاب لا تعبر عن رؤى سياسية، بل عن تجمعات عرقية، وهناك أحزاب مسيحية في كردستان العراق، مثل الحركة الديموقراطية الآشورية، أو اتحاد بيت نهرين الوطني، تقود معاركها السياسية من أجل حماية وجودها الإثني بين أحزاب كردية تتصارع على النفوذ.
حلول مبتكرة
ما أكدته السيدة ليلى موسى خلال حديثنا القصير، أنهم يؤمنون بسوريا الدولة وأن الحصول على حقوقهم يجب أن يتم في هذا الإطار.
لكن واقعياً فإن تجربة كردستان العراق ساهمت كثيراً في تحديد طبيعة العلاقات العربية الكردية، وشكلت في أذهاننا صورةً غير مُرضية.
ولذلك كما يطالب الكردُ العربَ بالاعتراف بحقوقهم الهوياتية، يجب أيضاً أن يبتكروا حلولاً مغايرة للتصورات التقليدية التي لازمتهم طوال نضالهم التاريخي، فالأحزاب المتطرفة بأفكارها البليدة لا تزال فاعلة في إقليم كردستان العراق، وتتلاعب بها القوى الإقليمية، أكثر مما تخدم القضية الكردية.
وتشير تصريحات وزير الدفاع التركي يشار غولر، التي قال فيها، إن "سلوك أصدقائنا الإيرانيين ليس لطيفاً" تجاه التعامل مع قضية حزب العمال الكردستاني، إلى أن تركيا وإيران، القوتين المحيطتين بالمنطقة العربية، لا تريدان القضاء على ذلك الحزب لا بالحرب ولا بالسلم، بل تعملان على تقليم أظافره، بوصفه "مسمار جحا" الذي يبرر تدخل أي طرف منهما إذا ما أرادت طهران إرخاء حبل التقارب المشدود بين أنقرة وبغداد أو أربيل. وكذلك إذا أرادت أنقرة إفساد الأمر نفسه على طهران.
إن الكرد في سوريا عليهم أن يتعلموا من أخطاء تجربة كردستان العراق، إن كنا نتحدث عن مشروع حقيقي لبناء مستقبل هذه المنطقة، وإلا فسيظلون تكراراً لإعادة صناعة العجلة!
ولا خروج للكرد من مستنقع الأزمات، إلا إذا تعلموا من أخطاء غيرهم وتخلوا عن النظرة الاستعلائية التي يروّج لها البعض لقيام الهوية الكردية على أساسها، بأنهم لا يشبهون أحداً وأن جنتهم مفقودة وأن لغتهم وثقافتهم وعرقهم لا تنتمي أو تتقارب مع أي إثنية أخرى، وهذه مغالطات للحقائق العلمية لا تبشر برغبة للتعايش، بل يجب أن يدركوا أن التعددية تعزز من قوة التعايش السلمي وتمنح النتاج الحضاري زخماً.
وكذلك الأمر بالنسبة إلى العرب، عليهم أن يدركوا أن القضية الكردية تحتل مساحة على الأرض، وأن معالجتها يجب أن تكون في إطار تحقيق أمن مستدام من أجل دعم المشاريع التنموية المشتركة وكذلك قطع الطريق على الاستقطاب الخارجي من قوى مثل إسرائيل أو تركيا أو إيران أو الولايات المتحدة الأميركية.