يتهم المثل الشعبي العراقيين بأن "همهم على بطنهم". كان ذلك المثل نوعاً من الفكاهة المترفة يوم كان هناك تبذير في استهلاك الأغذية بحيث تمتلئ المزابل في المدن العراقية بالأطعمة الفائضة. لم يفرق العراقي يوماً ما بين الكرم والإسراف. وكان ذلك واحداً من أكثر عيوبه مدعاة لشعور الآخرين بغرابة موقفه من الطعام.
كان هناك تداول ساخر في المجالس لمعادلة "نأكل لنعيش أم نعيش لنأكل" يضحك الكثيرون لأنهم كانوا يأكلون لا لأنهم جياع بل لأن الأكل لذيذ. طبعاً يمكن تخيل مقدار نسبة المصابين بمرض السكري بين العراقيين. تلك ليست المسألة التي تهمني في هذه اللحظة وإن فكرت بها باعتبارها مقدمة تاريخية. ما أثار استغرابي أنني كلما سألت عراقياً عاد من العراق بعد زيارة قصيرة عن أحوال البلد، فإنه يخبرني بأن الطعام كان لذيذاً وأنه أكل ما لم يأكله في سنوات غربته، حتى أن إحدى الصديقات أخبرتني بأنها وجدت في (بوفيه) الفطور في الفندق الراقي الذي سكنت فيه كباباً وباجة وباقلاء بالدهن، وكلها أطعمة شعبية لم تكن تُقدم في مطاعم الفنادق الراقية. تفعل تلك الأطعمة في تأثيرها الوجداني ما تفعله أغاني المقام العراقي. لذلك فإن العراقي ضعيف أمام رائحة الطعام مثلما هو ضعيف أمام صوت ناظم الغزالي. ولكن هل يذهب العراقيون إلى بلادهم ليأكلوا وهم ليسوا جياعاً بالتأكيد؟ وهل تحول الوطن إلى مطعم؟
مطبخ عريق يمتاز بتنوعه
العراقيون يجيدون الطبخ. هناك مطبخ عراقي يمد جذوره إلى الحضارة السومرية. لقد عثر الآثاريون على ألواح طينية تحتوي على وصفات غذائية لا تزال قيد الاستعمال حتى الآن. قيل إن الجعة وهي عصير الشعير شربها العراقيون القدامى. وليس المطبخ العباسي الذي أُلفت عنه كتب عديدة إلا جزءاً من ذلك العالم الذي اتسع في ما بعد ليضم إلى وصفاته ما اكتسبه من المطبخين الإيراني والتركي، وكان هناك تأثير محدود للمطبخ الهندي في البصرة بحكم موقعها الجغرافي على الخليح. غير أن هناك تنوعاً في المطبخ العراقي يشير إلى حرية التصرف بالوصفات. فعلى سبيل المثال كان "كباب الفلوجة" يختلف عن "كباب أربيل" في الطعم والشكل والمحتوى. كان العراقيون بارعين في ابتكار ما يعزز تنوعهم في إطار الوصفة الواحدة. ولكن أحداً في العراق في زمن ما قبل الاحتلال لم يكن قد التفت إلى ذلك بشيء من الفخر والتبجيل. كل شيء كان طبيعياً. لم يكن العراقيون يفاخرون بمطاعهم فهم يشعرون أن لديهم أشياء أهم يفخرون بها كالشعر والرسم والمسرح والمقام البغدادي. وإذا ما كان الطعام العراقي طيب النكهة والمذاق، فإن العراقيين لم يحسنوا الاهتمام بشكله كما يفعل السوريون واللبنانيون، وهو ما يشير جزئياً إلى أنهم لم يكونوا يأكلون بعيونهم كما يقول المثل الشائع. لم تشهد بغداد عبر عقود من الزمن افتتاح مطاعم حديثة تنافس المطاعم التقليدية وتتجاوزها في طريقة تقديم الطعام. لذلك ظلت مطاعم "تاجران" و"الشباب" و"ابن سمينة" و"علي شيش" و"الإخلاص" و"الحاتي" و"ابن طوبان" و"الجمهورية" و"أبو يونان" وهي مطاعم شعبية من غير منافس.
ترف يطل على هاوية العوز
"أكثر من 65% من المنشآت في العراق هي منشآت مطاعم وخدمات مطعمية"، ذلك ما يؤكده إحصاء رسمي صادر من وزارة التخطيط، إذ بلغ العدد التقريبي للمطاعم في العراق 23718 مطعماً. ذلك العدد لا يشمل مطاعم الرصيف والمطاعم الصغيرة والمتنقلة والموقتة وغير المسجلة والخفية. ومن الضروري هنا الإشارة إلى أن مباني المطاعم الجديدة هي أشبه بالقصور من جهة سعتها وحدائقها وأعمدتها وزخارفها. ولأن معظم تلك المطاعم يتركز في بغداد، فقد صارت العاصمة مدينة مطاعم، يتحول بعضها في الليل إلى ملاه، وبخاصة في أحد شوارعها الرئيسة في الكرادة. ومن المؤسف أن ما جرى من تغييرات تجاوز الشكل إلى المحتوى، حيث صارت تلك المطاعم تمزج الوجبات العراقية بأطعمة قادمة من مختلف أنحاء العالم فصارت تقدم أطباقاً لا هوية مؤكدة لها. فعلى سبيل المثال لم يكن تقليداً عراقياً أن يُقدم للشخص الواحد ثلاثة أنواع من الأرز في طبق واحد. تقليد ينطوي على قدر هائل من التبذير. ذلك ما جعل من العراق الدولة الخامسة في تسلسل أكثر الدول المستورة للأرز. ومن المعروف أن سلطة الاحتلال اتخذت قرارات عديدة، كان الهدف منها تدمير زراعة نوع نادر من الأرز يُطلق رائحة عطرة حين طبخه هو "العنبر". اليوم يستورد العراق الأرز لا ليستهلكه بل ليلقي الجزء الأكبر منه في المزابل. لم ينتبه الكثيرون ممَن يذهبون إلى العراق ويعودون معجبين بتطور مطاعمه إلى أن تلك المزابل قد تحولت هي الأخرى إلى مطاعم يبحث فيها الفقراء عن لقمتهم.
دولة للإنفاق خارج التنمية
لم تبن الدولة العرقية المطاعم ولا الأسواق الكبيرة (المولات) ولا الملاهي. القطاع الخاص هو الذي بناها والدولة مستفيدة من الضرائب التي تفرضها عليها. ذلك أمر حسن. لكن ما الذي بنته الدولة عبر أكثر من عشرين سنة من الرخاء؟ لا أحد يملك جواباً. فالعراق، رغم ثرائه، دولة تراكم ديونها الخارجية لا من أجل أن تبني بل من أجل أن تسدد نفقاتها. مقابل 32718 مطعماً فاخراً لم تُبنَ مدرسةٌ واحدة ولا مستشفى واحد. أما المدارس والمستشفيات الخاصة فشأنها مختلف. كل الحكومات المتتالية منذ عام 2005 لم تعلن عن برامج تنمية تشير إلى قطاعات حيوية مثل التعليم والصحة والزراعة والصناعة. وإذا ما كانت مفردات البنية التحتية كالكهرباء ومشاريع المياه والصرف الصحي قد افتضح أمر عمليات الفساد التي دمرتها، فإن الفساد كان قد احتوى بصمت كل المنشآت التي لم يبن منها إلا الحجر الأساس. فهل تحرر العراق من الاستبداد بقوة الغزو الأميركي ليتحول إلى مطعم؟ ذلك سؤال يجب أن يفكر فيه كل القادمين منه، وقد أخرس الطعام اللذيذ ألسنتهم عن قول كلمة حق.