في المرحلة المقبلة، سيستمر الاميركيون في اظهار افتراقهم النسبي عن الإسرائيليين فيما يتعلق بعملية اجتياح مدينة رفح. فإدارة الرئيس جو بادين غير قادرة على تحمل المزيد من الانتقادات الداخلية والخارجية على دعمها الكبير لحرب إسرائيل على قطاع غزة. فموجة الاحتجاجات الجامعية ترخي بظلالها على الرأي العام الأميركي. ومع انها ستخبو قليلا خلال عطلة الصيف، لكن مشاهد الفظائع الاسرائيلية التي تنشر عبر الاعلام ووسائل "السوشال ميديا" ستبقي شعلة الاحتجاجات متّقدة ومؤثرة في الداخل الأميركي لاسيما في أوساط الشباب، والكتل الناخبة تقليدياً للحزب الديموقراطي وتستمد قوتها الحالية من السنة الانتخابية التي لا تقتصر على انتخاب رئيس، بل على انتخاب أعضاء مجلس النواب الأميركي ال435. هذا يعني ان التحدي الانتخابي سيلعب دورا مركزياً في سلوك إدارة الرئيس بايدن بالنسبة الى حرب غزة الاسرائيلية.
على الصعيد الخارجي واضح جداً ان حرب غزة والسلوك الإسرائيلي فيها قد أسهما في تقويض صورة الولايات المتحدة الواقعة بين نارين: فهي ملزمة بالدفاع عن إسرائيل باعتبارها حجر الرحى في الاستراتيجية الأميركية والغربية في منطقة الشرق الأوسط، غربي آسيا عند تقاطع القارات الثلاث آسيا، افريقيا وأوروبا. كما ان دعم إسرائيل الكبير سيف ذو حدين، فهو يؤثر على صورة الولايات المتحدة في المجتمعات العربية والإسلامية، لكن هذا الدعم يخضع لمراقبة دقيقة من قبل حلفاء اميركا التقليديين في المنطقة الذين تراجعت ثقتهم بالتحالف مع الولايات المتحدة بعد سلسلة من الخيبات في العقدين الماضيين. وأهمها السياسة الأميركية حيال ايران خصوصاً في عهدي الرئيس الأسبق باراك أوباما والحالي جو بايدن. من هنا حراجة موقف الولايات المتحدة التي تعاني اليوم من عثرات جدية في ساحة المعركة الروسية – الأوكرانية، اهم أسبابها تأخر الكونغرس الأميركي اكثر من 7 اشهر في التصويت على حزمة مساعدات لأوكرانيا بلغت اكثر من 60 مليار دولار. الامر الذي مكن الجيش الروسي من تجميع قواه وإعادة تنظيم ألويته المقاتلة لشن هجمات وتحقيق انتصارات تكتيكية مهمة، يُخشى ان تتحول الى انتصار استراتيجي اذا ما سقطت خاركيف ثاني مدن أوكرانيا في الهجوم الروسي الحالي.
مع ذلك كله فإن التمايز الأميركي عن إسرائيل لا يلغي حقيقة مفادها ان هدف الطرفين الاستراتيجي هو القضاء على حركة "حماس" عسكرياً، وتغيير الواقع السياسي في قطاع غزة، بحيث لا تعود "حماس" او حليفها الأهم حركة "الجهاد الإسلامي" الى حكم القطاع. إضافة الى ان المرحلة المقبلة المسماة "اليوم التالي" ستكون بالغة الأهمية من اجل ألا تتكرر عملية "طوفان الأقصى" مرة أخرى في مكان آخر. والطرفان يبغيان ارسال رسالة الى ايران التي ترعى الفصائل والقوى المناهضة للولايات المتحدة وإسرائيل وتهدد الامن القومي للحلفاء التقليديين. ان ثمن محاولة قلب الطاولة على حلفاء اميركا في المنطقة باهظ جداً، العبرة فيما يحصل في غزة، وما يمكن ان يحصل في لبنان المرشح لأن يشهد قريباً جداً توسعة لحرب الاستنزاف من قبل إسرائيل التي تحتاج الى فرض هدنة طويلة على "حزب الله" بقوة النار.
الخلاف والتنافر بين جو بايدن وبنيامين نتنياهو، كما الإجراءات "العقابية" الأميركية هنا وهناك لن تؤدي الى افتراق اميركا وإسرائيل. ان التحالف بينهما اكبر من ازمة الرأي العام الشبابي في الجامعات الأميركية تحديدا في مرحلة الصراعات الكبيرة من أوكرانيا الى غزة وصولا الى تايوان. انه اكبر تحدٍ لزعامة الولايات المتحدة العالمية منذ سقوط جدار برلين عام 1989. وللدولة العميقة في اميركا حساباتها بصرف النظر عمن يجلس في "المكتب البيضاوي".