بينما اعتقد المصريون، بعد دحر إرهاب تنظيم "الإخوان المسلمين" وباقي التنظيمات المتأسلمة الأخرى المتحالفة معه أو ولدت من رحمه، أن المنصات الإعلامية للتنظيم لن تجد ما تسوّقه أو تتاجر به أو تكذب به على الناس الذين صاروا يسخرون منها ويضحكون على فبركاتها، بدا كأن التنظيم وجد ما ينعشه ويسخن به الأجواء ويشحن مواقعه وصفحاته وقنواته بمادة خصبة تمنحه مساحة جديدة يرتع فيها، وملعباً حديثاً يلهو فيه ويشعل من خلاله الأجواء ويربك المجتمع ليعود إلى نشاطه المحموم في بث الفتن واستثمارها. وبعدما سيطرت الدولة المصرية على المساجد وقضت على استغلالها في تجنيد المتطرفين وتسويق الإرهاب وخداع الناس، جاءت الفرصة مجدداً لـ"تكوين" متطرفين جدد، وشغل المجتمع بجدل يكون محوره الدين والهجوم عليه أو الدفاع عنه، وهو المناخ الذي تمرس الإخوان في استثماره واستغلاله وتحويله إلى عنصر جاذب لقطاعات من المصريين البسطاء إلى ملعب الجماعة بزعم الدفاع عن الدين!
وبغض النظر عن أفكار "تكوين" والأهداف التي يسعى مؤسسوها إلى تحقيقها وتصريحات المنتسبين إلى المؤسسة التي غطت مواقع التواصل الاجتماعي ومنصات إعلامية عدة، بينها منصات أسستها المؤسسة ذاتها، وكلها فتحت مجالات واسعة للجدل والصخب والسخرية أحياناً، فالمؤكد أن ظهور مؤسسة "تكوين" والنقاش حول مؤسسيها أعطى إيحاءات بوجود انقسام مجتمعي في مصر، خصوصاً مع انطباعات ترسخت لدى البعض بأن نشاط غالبية المحسوبين على التيار الليبرالي أو التنويري، كما يحبون أن يطلقوا على أنفسهم، لم يصب على مدى سنوات لمصلحة الوطن بل لمصالحهم، فهناك قناعات لدى بعض الناس بأن هؤلاء أدمنوا الكلام واستفادوا منه، رغم أن المجتمع محمل بأعباء أكثر أهمية من الموضوعات التي لا يرغب أكثر من مئة مليون مواطن في التركيز عليها، أو يخشون من أن يؤدي الجدل حولها إلى منح الإخوان الفرصة للعودة إلى الساحة، بل شغل المواطن البسيط عن تدبير أمور حياته الصعبة، والتصدي لمؤامرات الإخوان والمشاركة في معركة التنمية. وفي غضون أيام قليلة من الإعلان عن مؤتمر "تكوين" في مقر المتحف المصري الكبير، الذي لم يفتتح رسمياً بعد، صدرت تصريحات من مؤسسي ذلك الكيان تشير إلى أن الدولة ترعى المؤسسة وتسوقها، رغم أن أحد مؤسسي "تكوين" دين بحكم قضائي يتعلق بآرائه ومواقفه من الدين صدر من مؤسسة القضاء التي تتبع الدولة ذاتها، ما جعل الناس يرتبكون أو يطرحون أسئلة لا تجد إجابة من المسؤولين في الدولة.
ارتاح الناس من أخطار الإخوان وجرائمهم وهدأ الصخب السياسي والفكري وانشغل الناس بملاحقة أخبار أسعار السلع وحال الأسواق، وبدا أن لا انقسام بين فئات الشعب في مصر بل هناك بقايا تنظيم إرهابي في حال كمون داخل البلاد بينما عناصره في الخارج ينشطون عبر منصات إعلامية لمحاولة بث الفتن والإساءة إلى الحكم والانتقام من الشعب وهدم البلد على من فيه، لأن ذلك أفضل كثيراً للمتطرفين والإرهابيين، من أن تثبت جهة محايدة أن المتأسلمين فشلوا في الحكم لسنة كاملة عانت فيها مصر انقسامات وليس انقساماً واحداً، وهناك أيضاً تيار يحتكر التنوير سعى بعض رموزه دائماً للفوز بكعكة كل حكم جديد، رغم أن بينهم من تحالف مع كل حكم قديم، بينما الدولة تعمل لمصلحة مجتمع بأكمله، بكل مكوناته وأطيافه وقواه السياسية وفئاته العمرية وشرائحه الاجتماعية ومستوياته العلمية والثقافية، ولا تعطي ميزة لهؤلاء الذين لا يقبلون الرأي الآخر، حتى لو ادعوا أنهم ليبراليون أو يدعون إلى حرية التعبير والمعتقد.
وما بين مؤامرات المتأسلمين وطموحات التنويريين، تعاني مصر مخاطر الفتن والاستقطاب، وبينما تحالف الإخوان مع جهات خارجية وأجهزة استخبارات وتنظيمات وأحزاب وجماعات متأسلمة خارج مصر، استغل بعض المنتسبين إلى التيار المدني ظروف البلاد في سنوات سابقة للقفز إلى واجهة الأحداث واحتلال الاستوديوهات من دون اقتراب من الجماهير أو التحام مع القطاعات الشعبية، فبقيت الفجوة واسعة والهوة سحيقة عميقة بين أهدافهم وحاجات الناس وطموحاتهم إلى العيش الكريم.
نعم يحتاج المجتمع المصري إلى إعادة هيكلة بعض أفكاره، وتصحيح مفاهيم خاطئة، وتشجيع الذين يتصدون للاجتهاد وتفنيد أطروحات أسست على معلومات تاريخية غير صحيحة، لكن ربما عبر مفكرين وباحثين وأشخاص آخرين لم تترسخ قناعات لدى الناس بأن لهم أجندات أو تحالفات أو أهداف غير معلنة، حتى لو كانت تلك القناعات غير سليمة، فهناك مجتمعات أخرى يعبد فيها الناس البقر ولم يجرؤ أحد هناك على الدخول في صدامات مع المواطنين ليصحح لهم معتقداتهم.
يبدو الاندفاع واضحاً في الاعلان عن "تكوين" كحركات وتجمعات اخرى تظهر كل فترة وتقفز إلى السطح كلما عصفت الحياة والظروف الصعبة أو الازمات بالناس في مصر، وبالطبع لا يتوقف البسطاء عن التحذير من خطورة تلك الاندفاعات على المجتمع، اذ يستثمرها السياسيون والنخب والنشطاء، وكذلك بالطبع الاخوان وحلفاؤهم، للصيد في مياه الجدل العكرة حولها في الغمز واللمز والضغط على الحكم، وتكون مناسبة جيدة لبرامج الفضائيات لتنشر الغسيل طوال الليل إذا وقع التلاسن بين أحد رموز النخبة وآخرين ممن عارضوا سلوكه أو رصدوا جموحه.
المهم في النهاية أن الكل تابع حملة شنتها منصات وفضائيات تابعة للإخوان المسلمين أو متحالفة معهم، تبث من خارج مصر في التنظير والوعظ وإرشاد المواطنين. فالمناسبة الجديدة التي فرضت الموضوع على الساحة تحولت مادة خصبة مؤثرة استخدمتها كل الصفحات والمنصات والفضائيات. دعك هنا من مواقف بعض أعضاء مجلس أمناء "تكوين" السابقة والمعلنة والتي أثارت الجدل والصخب وأفضت إلى سجن واحد منهم بحكم قضائي تعلق بمواقفه من الأديان، ولاحظ أن غالبية أعضاء المجلس مارسوا، في فترات سابقة، أيضاً مواقف ساخرة تستهزئ بالأوضاع السياسية في البلاد بكلام خارج وعبارات ومفردات خادشة للحياء، فالكلام في مصر صار أداة في إثارة الجدل بين الناس، وحين شعرت الأطراف المكونة للمجتمع المصري بمدى أهميته وخطورته سعت كلها إلى استغلاله من دون أي معايير ذاتية إلا لتحقيق المصالح، ولا يتعلق الأمر فقط بمدى الحرية الممنوحة، أو المتاحة، للناس أن يتكلموا، ولكن أيضاً يفترض أن تدخل في التقويم معايير أخرى تتعلق بسابقة الأعمال والتحالفات والمواقف والكتابات والأحاديث والقدر الذي ساهم به هذا التنويري أو ذاك في تثقيف المجتمع وتنويره وعرض الحقائق على الناس، من دون التورط في التنافس على إفساد الذوق العام وتغييب الوعي وترويج الأكاذيب والتغاضي عن قلة الأدب واستخدام الكلمات والعبارات البذيئة وتأجيج المشاعر، وإلا كيف سيتقبل الناس خطاباً واحداً من التنويريين ومنطقه وأهدافه وأفكاره ونيته، حين سئل عن أسباب وجود زجاجة جعة على طاولة في جوار صورة جماعية لأعضاء مجلس أمناء "تكوين" فكان رده على السائل: اسأل الست والدتك؟!