في الاحتفال بالذكرى الرابعة والأربعين للثورة الإيرانية العام الماضي، كان السفير الهنغاري في طهران يجلس خلف الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي. بدا ذلك محيّراً. الاتحاد الأوروبي يقاطع طهران وبينه وبينها ما صنع الحدّاد، فيما تقيم إحدى دوله علاقات قويّة معها. والواقع أنّ صداقتهما تتنامى على المستويين الاقتصادي والسياسي منذ عقد من الزمن. وقد يساعد تطوّرها على البدء بمعالجة أزمات إقليمية مستعصية.
والعلاقة الوثيقة لفتت النظر من جديد أخيراً. جاء الرئيس الإيراني الأسبق محمود أحمدي نجاد إلى بودابست في 7 أيار (مايو) الجاري بدعوة من "الجامعة الوطنية للخدمة العامة". ورغم الطابع العفوي للزيارة، من المستبعد أن يحل إيراني من هذا المستوى ضيفاً على دولة أخرى، من دون ضوء أخضر من حكومتي البلدين. وإذا افترضنا أنّ طهران أرادت إيفاد مندوب عنها لأداء مهمة غير رسمية تعلّق عليها أهمية كبرى، لما وجدت شخصاً أكثر خبرة من أحمدي نجاد، ومناسباً لجهة استقلاليته عنها، فهو مراقب خرج عن الخط الرسمي للنظام في طهران في السنوات الأخيرة.
لا يتردد أحمدي نجاد في خوض المعارك السياسية وانتقاد الحكومة من موقعه كعضو في "مجلس تشخيص مصلحة النظام" النافذ. ويؤكّد "أنا لست أحمدي نجاد" المتشدد، محافظ العاصمة طهران، ورئيس البلاد على مدى ولايتين من 2005 وحتى 2013! فهو بدّل الكثير من أفكاره. وقال في 2021 إنّه صار يصنّف نفسه "ديموقراطياً ليبرالياً". والرجل ماضٍ في "تبييض صفحته" على المستوى الخارجي أيضاً. ويُقدّم أوراق اعتماده إلى معسكر الليبراليين الذين يتفقون مع الغرب في المواقف والرؤى من خلال مقابلات يجريها مع وسائل الإعلام الأجنبية ورسائل سلام يوجهها عبر وسائط التواصل الاجتماعي باستمرار.
وبين المقابلات التي تسلّط الضوء بقوّة على أحمدي نجاد "الجديد" تلك التي أجاب فيها عن أسئلة الكاتب الأميركي المقيم في القدس المحتلة صاموئيل ثورب في 2019 لمجلة "نيشين" الأميركية، ونشرتها صحيفة "تايمز أوف إسرائيل" أيضاً. فقد هاجم فيها السياسات الاقتصادية لبلاده. وذهب في محاولته تمييز نفسه عن النظام الحاكم إلى حد التلميح بأنّ حكم خامنئي لا يختلف عن حكم الشاه، كما لاحظ ثورب. وفي عبارات تنطوي على الإشارة إلى إمكان تحقيق السلام بين إيران وإسرائيل، قال لمحدّثه: "أنت يهودي وأنا مسلم ونحن نتحدث (...) هل نحن نتقاتل؟ هل نحن في حالة حرب؟".
وصوّب سهامه على مبدأ "تصدير الثورة" الذي اعتمدته إيران منذ 1979 ركيزة استراتيجية لنظامها، حينما شدد على أنّه "لا يحق لأحد أن يتدخل في شؤون الآخرين". كما شجب الحرب على أوكرانيا التي تشنها روسيا بقيادة الرئيس فلاديمير بوتين، صديقه السابق وحليف بلاده الحالي. وموقفه هذا يضعه على طرفي نقيض مع رئيس هنغاريا فيكتور أوربان. لكن بينهما مشتركات عدة، ربما كانت البراغماتية أهمها.
لا يخشى أوربان غضب أوروبا لاستقباله السياسي الإيراني، وهو الذي يصرّ على استفزازها بصداقته مع بوتين والرئيس الصيني شي جينبينغ، وعرقلة سياساتها.
إلا أنّ ثمة وجهاً مختلفاً لخروجه عن وحدة الصف الأوروبية هذه المرة. فالضيف الكبير متهم بمعاداة السامية وإنكار المحرقة النازية التي أقام مؤتمراً شهيراً في طهران لمناقشتها عام 2006 حضره بعض عتاة العنصريين المعادين للسامية من النازيين الجدد في الغرب. لقد نفى هذه التهمة بشدة في مقابلته مع ثورب ومناسبات أخرى. بيد أنه لم يقنع الكثيرين. لذا كان رد الفعل على زيارته بودابست عارماً من جانب جمعيات اليهود في هنغاريا.
لا يمكن أن يكون الألم اليهودي من الرئيس الإيراني الأسبق قد غاب عن بال أوربان. ولا يستبعد أن يكون قد خطط للزيارة لأنّ لها أغراضاً نفيسة تستأهل ثمن إزعاج أصدقائه هؤلاء. ولا شك في أنّه لم يستقبل عدو إسرائيل اللدود سابقاً نكاية بها، وهو المدافع الجريء عنها والحليف الوثيق لرئيس وزرائها بنيامين نتنياهو. ولم تعلّق تل أبيب مباشرة، بل تركت الأمر لسفارتها في بودابست التي أصدرت بيانات استنكار على سبيل المشاركة الوجدانية في الصخب الصهيوني حول الزيارة، ولم تصعّد أو تحتج رسمياً. وفي المحصلة، ليس من قبيل المبالغة القول إنّ الزيارة تمّت برضا تل أبيب، إن لم نقل إنّها جرت بتنسيق معها، سرّاً!
ربما يطمح أوربان إلى مكاسب اقتصادية وسياسية من استضافته. لكن لماذا يتكبّد الرئيس الإيراني الأسبق مشقة المشاركة في اجتماعات مغلقة قيل إنّها تتعلّق بالبيئة وليس معروفاً عنه اهتمامه بالموضوع؟ وليس من الممكن الجزم بعدم عقد لقاءات سرّية. ومن يدري ما إذا حضر ممثلون لتل أبيب بعض تلك المباحثات، فالتواصل بينها وبين طهران عبر قنوات غير رسمية حصل في مناسبات عديدة بدءاً من أوائل ثمانينات القرن الماضي حين أُبرمت صفقة الأسلحة المسماة "إيران-كونترا"، وصولاً إلى مواجهات أخيرة تمّ ضبط إيقاعها بصرامة ولم تتحوّل إلى حرب واسعة النطاق.
من الممكن الحديث عن "مكافآت" شخصية وعامة، قد تتمخض عنها هذه المفاوضات المفترضة في حال نجاحها. فأحمدي نجاد لم يركن حتى الآن للبقاء على الهامش بعد خروجه من الحكم. وهو ليس نكرة من الناحية السياسية، إذ لا شك في أنّ العديد من أصدقاء الماضي وزملاء الأمس في الحرس الثوري الإيراني الذين دعموه سابقاً، لا يزالون قريبين منه. حاول مرّتين العودة إلى السلطة التي غادرها في 2013، من دون جدوى. وقد يسعى مجدداً للفوز بالرئاسة. وهناك من يعتقد أنّه قد وضع نصب عينيه وظيفة المرشد الأكبر ويخطط للحلول محل علي خامنئي عندما تحين ساعته.
غير أنّ ثمّة منافسين له على خلافة المرشد، بينهم ابنه مجتبى صاحب اليد الطولى في الحرس الثوري، الذي قيل إنّه كدّس الأموال بطرق لم تكن مشروعة دوماً استعداداً للانقضاض على المنصب حالما صار شاغراً. والمفارقة أنّ مجتبى هو من دافع عن أحمدي نجاد خلال ولايته الثانية الملتبسة وكلّف الحرس الثوري البطش بالمتظاهرين الذين خرجوا إلى الشوارع في 2009 احتجاجاً على تزوير النتائج لإبقاء صديقه في الحكم. لذا ليس غريباً أن يتحالف الاثنان مجدداً ويتفقا على تقاسم عادل للأدوار.
قد تجعله "مهمة" بودابست المفترضة مؤهلاً أكثر للعودة إلى الواجهة إذا تمكّن من دفع عجلة تطبيع علاقة إيران مع خصومها الحاليين في أوروبا وربما خارجها، وتمهيد الطريق أمام عهد سيكون أحد قطبيه الرئيسيين. هكذا قد يصبح المتشدّد القديم وجه إيران "المعتدلة" التي رُسمت بعض معالمها الجديدة في "بودابست"!