نسي اللبنانيون أو تناسوا أن بلدهم من دون رئيس منذ أكثر من سنة ونصف سنة، وتأقلموا مع واقع أن حكومة مستقيلة في وضعية تصريف أعمال محدود جداً تدير شؤونهم في ظرف عصيب ومعقد سياسياً واقتصادياً. استسلموا لواقع مفروض عليهم أكبر منهم وهمدت روح الثورة والاعتراض لديهم إلى حد اليأس من إحداث أي تغيير، في ما يشبه التواطؤ الضمني مع الطبقة السياسية التي أوصلتهم والبلد إلى حال من البؤس هي عادة من صفات بلدان المجاعة التقليدية، التي يعرفها القاصي والداني ولا فائدة من التذكير بها تعاطفاً مع أهلها المغلوب على أمرهم أيضاً.
لا يقف الأمر عند العجز عن انتخاب رئيس للجمهورية، هذا منصب كبير في بلد كبير يستحق التروي والانتظار ليأتي الرئيس العتيد بعد درس معمق مختمر ليلبي الطموحات بالخلاص والمجد اللذين يستحقهما هذا "الشعب العظيم" كما سماه الرئيس ميشال عون عندما "ثار" يوماً ما.
الطبقة السياسية عجزت عن تعيين قائد للجيش وعن إجراء تشكيلات قضائية وعن تعيين مديرين عامين وموظفي فئة أولى، وحتى من فئات أقل، وصولاً إلى الفئات الدنيا في أسفل السلّم الوظيفي. الإدارة شبه فارغة ويدير عدداً كبيراً منها موظفون "تنفيعة" للسياسيين لا يفهمون بالإدارة ولا بالتعامل مع الناس، هذا إذا حضروا إلى مكاتبهم.
عجزت الطبقة السياسية عن إجراء انتخابات بلدية (حتى قبل الحرب الدائرة في الجنوب حالياً)، لم تكن عاجزة، لكنها لم ترد ذلك، فالوضع البلدي المترهل القائم قد يكون أفضل لها للإمساك بكل مفاصل البلد الكبيرة والصغيرة والمتناهية الصغر.
أساساً، لقد حجّمت الطبقة السياسية العمل البلدي إلى حدوده الدنيا وباتت المجالس البلدة عاجزة حتى عن دفع راتب شرطي بلدي يحرس مبناها. قبل شهرين من الموعد الذي كان مقرراً للانتخابات البلدية وقبل إعلان التأجيل لم يعلن أحد نيته الترشح ولم يتكلم أحد في المدن والقرى عن البلديات وانتخاباتها في حالة شبه عزوف جماعية، فمن ذا الذي سيتنطح إلى قيادة عمل في بلدية مفلسة عاجزة حتى عن لمّ نفايات بلدتها وعن تعيين شرطي أو ناطور، ربما إلا من كان يبغي مصلحة خاصة.
كل ذلك قد يكون من "القضايا الكبرى" التي تعجز عنها الدولة في ظل الفراغ السياسي المريب والانهيار الاقتصادي الساحق الماحق، لكن أن تعجز الدولة عن جباية أموالها وتحصيل الضرائب والرسوم التي هي بأمسّ الحاجة إليها فتلك مصيبة كبرى، وتعظم المصيبة إذا كان المواطن يذهب إلى دفع ما يتوجب عليه للدولة، والدولة ترفض أن تقبض منه متوجباته. إنه لأمر يثير العجب.
مواطنون نُظمت في حقهم محاضر ضبط لركنهم سياراتهم في أماكن ممنوع الوقوف فيها (الدولة لا تقدر إلا على المواطن الضعيف)، ولأن كثراً من هؤلاء لم يمزقوا المحاضر ويرموها في سلة المهملات كما يفعل المدعومون والرافضون لمنطق الدولة، قرروا دفعها لخزينة الدولة، ذهبوا إلى مراكز الدفع المنتشرة بالمئات في كل مدينة، فقيل لهم اذهبوا إلى "ليبان بوست" وهي الشركة المولجة أمر البريد واستيفاء الرسوم لمصلحة الدولة ويملكها رئيس الحكومة نجيب ميقاتي، فأبلغتهم أن لا طوابع أميرية لدفع الغرامة لأن الدولة لم تطبع كميات كافية منها وطلبت منهم الذهاب للدفع مباشرة في مفارز السير، وفي مفارز السير أبلغوهم أنهم لا يستطيعون الدفع إلا بعد أن يشتروا الطوابع من "ليبان بوست". وهكذا داخ هؤلاء بين مفارز السير ومكاتب "ليبان بوست" وما زالوا دائخين.
أزمة الطوابع في لبنان أكبر من البلد ومن الطبقة السياسية ومن كل المؤسسات. الطوابع هي إحدى وسائل الجباية الأساسية لأموال الدولة، لا معاملة تمر من دون طوابع، هي عملة ورقية صافية تطبعها الدول كما تطبع العملة. لا تسير معاملة في أي دائرة من دون طوابع. والسلطة في لبنان عاجزة عن طبعة الطوابع المعروفة تاريخياً بأوراق "البول". تتعطل أعمال الناس ويستجدون الطوابع استجداءً.
ومضحكة تبريرات المسؤولين للأزمة وتنم عن عدم مسؤولية وعن استخفاف ظاهر بعقل المواطن.
لكن مهلاً الطوابع موجودة وما على المواطن إلا أن يستهدي إلى تاجر السوق السوداء الذي يبيعه الطابع بعشرين ضعف ثمنه الحقيقي، فطابع الخمسمئة ألف لزوم محضر ضبط السيارة يدفع المواطن ثمنه نحو عشرة ملايين ليرة، وطابع الألف لزوم المعاملات البسيطة يدفع المواطن ثمنه أكثر من مئة ألف عند الحاجة.
تظهر الطوابع في السوق السوداء لأن هناك عصابات تحتكرها وتقنن نزولها إلى السوق، عصابات معروفة لدى أهل الحل والربط (ومدعومة)، إذ لا يُعقل أن لا يعرف رئيس الحكومة ووزير المال والأجهزة الأمنية واستخباراتها كيف تُدار شبكات الإتجار غير المشروع بالطوابع ومن هم رؤوس العصابات وشبكات الاحتكار والتوزيع. ومن المحزن والمعيب حقاً أن تذهب إلى دائرة رسمية وتفاجأ بأن المسؤول يدلك إلى بائع السوق السوداء أسفل البنانية.
بلد بلا ورق بول بلد بلا إدارة ولا سياسة.
منهبة للمواطن الصامت المقهور.