تعيش الدولة اليوم على المستوى العالمي وضعاً غير مستقر، بل هناك نقاش حول مراجعة أدوار الدولة بصفة جذرية ولأسباب موضوعية، تتمثل في التحولات المعيارية التي تمس مبدأ السيادة بأبعاده المختلفة، بخاصة الاقتصادية والسياسية والعسكرية.
فكثيرٌ من الدول الأوروبية التي تأثرت بشكل كبير بتداعيات الأزمة الاقتصادية العالمية بعد سنة 2008، واجهت صعوبات حقيقية على مستوى تأمين قراراتها السيادية والالتزام بوعودها أمام مواطنيها، حيث أنّ دولاً كإيرلندا والبرتغال واليونان وإسبانيا، لم تعمل الأحزاب التي إختارها الناخبون في الانتخابات، سوى على تنفيذ حزمة من الشروط التقشفية التي فرضتها المؤسسات المالية الأوروبية والدولية، كشرط لضخ أموال في اقتصادياتها المحلية، خصوصاً معالجة نقص سيولة البنوك.
ومن أهم هذه الشروط هو تخفيض كلفة الأعباء الاجتماعية في قطاعات حيوية تمسّ الحياة اليومية للمواطنين، كالصحة والتعليم والأجور والتقاعد ومعونات البطالة، إضافة إلى تخفيف الضمانات القانونية المتعلقة بالتشغيل وسوق العمل بصفة عامة. صحيح أنّ هذه الدول عادت للتعافي وعاد لها النَفَس التدخلي بخاصة في ظل أزمة جائحة كورونا، لكن مع ذلك فإنّ الأزمة الاقتصادية العالمية بتداعياتها المستمرة إلى اليوم، أوضحت محدودية دور الدولة وعجزها أمام إملاءات المؤسسات المالية.
هذا الوضع صار يهدّد أستقرار الدول بصفة جدّية، فلجوء الدول إلى تأميم الخسائر التي تكبّدها القطاع المصرفي والبورصوي، وفرض تبعات ذلك على المواطنين البسطاء الذين كانوا باستمرار على هامش الأرباح الخيالية التي كانت تجنيها هذه المصارف والبورصات من المضاربات والاقتصاد الافتراضي، يُعتبر تجاوزاً كبيراً يهدّد الديموقراطية ويحمل بدائل خطيرة على الاستقرار العالمي، فكما أنتجت أزمة 1929 صعود النازية في ألمانيا، فإنّ الأزمة الممتدة للنموذج الاقتصادي العالمي السائد اليوم بأزماته وأعطابه ولا عدالته، تدفع بتيارات سياسية غير ديموقراطية إلى صدارة المشهد السياسي في أكثر من بلد حول العالم، بخاصة في أوروبا، من خلال التقدّم الكبير لليمين المتطرّف والنازيين الجدد الذين حقّقوا اختراقات إنتخابية غير مسبوقة، وانحراف التصويت لهذه المجموعات نابع من يأس المواطنين البسطاء من السياسيين الذين يعجزون عن الوفاء بإلتزاماتهم بخاصة ذات التكلفة المالية، وذلك يرجع لمحدودية إستقلالية قرار الدولة في مواجهة تيارات الاقتصاد المعولم.
هكذا تعاني الانتخابات اليوم كإحدى مظاهر الديموقراطية ومداخلها الأساسية، من خطر تحولها إلى طريق معبّدة لخصوم الديموقراطية ممن يحملون مشاريع متطرفة قد تعيد العالم إلى أجواء الحربين العالميتين الأولى والثانية.
مخاطر عدم الاستقرار العالمي لا تقتصر فقط على ما يجري اليوم في الغرب، بل أيضاً ما يجري في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا وآسيا، فإذا كانت الأزمة الاقتصادية العالمية قضت على الأحزاب الموجودة في السلطة في أوروبا، بغض النظر عن اختياراتها الإيديولوجية، وساهمت في بناء مشهد حزبي جديد ما زالت آثاره مستمرة إلى اليوم، بخاصة بالنسبة للدول التي انهارت فيها الثنائية الحزبية بصورتها التقليدية التي استمرت منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، فإنّ الصورة تبدو أكثر ضبابية عندما نتجّه إلى أقصى الكرة الأرضية في اتجاه الشرق الأقصى، وأهم ما يظهر فيها أنّ التنين الصيني في طريقه إلى مراجعة كثير من اختياراته التنموية بفعل وصول تداعيات الأزمة إلى عمق بنيته الإنتاجية ومسّت الهيكلة الجديدة في المجتمع الصيني.
وفي حال عدم القيام بإجراءات إستباقية، فإنّ الصين قد تعيش كارثة اجتماعية كبيرة، أهم وقودها طبقة وسطى تعادل مجموع سكان أوروبا، وحجم متقاعدين يعادل عدد سكان الولايات المتحدة الأميركية، إضافة إلى موجة هجرة المصانع التي بدأت بنسبة قليلة اليوم في اتجاه فيتنام وميانمار وبنغلادش بل في اتجاه الولايات المتحدة نفسها، مع ما تتيحه الثورة الصناعية الرابعة من استغناء عن اليد العاملة.
الصين أصبحت رائدة عالمية في صناعة واستعمال الروبوتات، زيادة على ذلك تواجه اليوم مخاطر الانزياح عن نموذج "ديموقراطي" أرساه الحزب الشيوعي الحاكم، وضَمَن هذا النموذج تداولاً على السلطة بشكل سلس، وله يعود فضل قدرة الصين على تجنّب مصير الاتحاد السوفياتي والمعسكر الشرقي. فقد أدخلت بكين تعديلات جوهرية في نص الدستور الصيني، إذا أضيف إلى ذلك أزمة تايوان وأزمة الطاقة وشح الموارد النفطية والغازية مع إستمرار التوترات في الشرق الأوسط، بخاصة في محور طهران ودمشق وتل أبيب والرياض والقاهرة وغزة وبيروت، فإنّ هناك مخاطر جدّية بأن تتحول الصين إلى دولة إمبريالية لحماية مصالحها، أو تحمل تبعات انتفاضات شعبية ستحمل مطالب ديموقراطية وسياسية لا قبل للصين كنظام سياسي بها في هذه الظرفية بالذات، ما سيجعلها موضوعياً على طريق الاتحاد السوفياتي البائد. وأي إنهيار للصين بهذا الشكل الدرامي سيكون له وقع الكارثة على الاستقرار العالمي.
تُرى هل نعي نحن، طبيعة هذه التحولات التي تجري في محيطنا؟ مجرد سؤال...