يبالغ الرئيس الفلسطيني في الاحتفاظ غير المثمر بآرائه الشخصية في الشأن الفلسطيني، يبالغ كثيراً في إعلانها وفي تحويل هذه الآراء التي فقدت حكمتها، بسبب التقادم وتبدل الأحوال، وتدفق الزمن، وظهور أجيال جديدة من الفلسطينيين، لم يكن معظمهم قد بلغ العاشرة أو وُلد عندما وصل، في انتخابات يتيمة لم تتكرر، إلى مقعد الرئاسة بنسبة 62% في عام 2006.
جيل بحاجة إلى خطاب مختلف لأنه ببساطة يعيش زمناً مختلفاً.
هذا ما يمكن الحصول عليه من خطابه في مؤتمر القمة في المنامة أمس، عندما حمّل المقاومة، حماس تحديداً، مسؤولية توفير الذريعة لإسرائيل لتنفيذ الإبادة القائمة في غزة.
وهو كلام لا يخدم أحداً، وبالتأكيد لن يصب في المصلحة الوطنية الفلسطينية، ولن يصب في مصلحة الرئيس أيضاً، حديث قيل في المكان الخطأ للأشخاص الخطأ وفي التوقيت غير المناسب، حديث زائد عن الحاجة في أفضل قراءة له.
يتغير الناس الذين يعبرون في شارع الإرسال تحت شبابيك مجمع "المقاطعة" حيث يقع مكتب الرئاسة، الشبابيك التي لا تفتح ولا يرى سكان المكتب منها الشارع.
يتغير الأولاد والبنات على مقاعد الدراسة وتدفع الجامعات أفواجاً جديدة نحو سوق العمل ومقاهي البطالة. يصعد شبان جدد وهم يحملون زوّادات الطعام الفقيرة في حافلات الفورد الصفراء التي يدفعها مقاولو العمال، مقاولون جدد أيضاً، نحو ورشات البناء والمصانع والمطاعم في إسرائيل.
أشياء كثيرة تتغير في ثلاثة عقود منذ توقيع اتفاقيات أوسلو التي كانت ثمرة جهد الرئيس الفلسطيني والتنفيذ الميداني لنظريته، ومنذ ما يقارب العقدين منذ توليه الرئاسة.
تسجن القدس، العاصمة، ويحاول الاحتلال تفكيك هويتها العربية، يغلق "بيت الشرق" ويرحل فيصل الحسيني، وتفتتح السفارة الأميركية فيها، وتتسرب العقارات إلى أيدي المنظمات الاستيطانية ويتحول اقتحام المسجد الأقصى إلى حدث يومي.
تحدث انتفاضات ويجتاح جيش شارون مدن الضفة في تحديث شامل للاحتلال، وتتضاعف المستوطنات وتتآكل المنطقة "سي"، وتذرع عصابات المستوطنين المسلحة شوارع القرى والبلدات تاركة حيثما وصلت حرائق وقتلى وخرائب في تطبيق حرفي للشعار المرفوع منذ عشية النكبة "الموت للعرب".
تحاصر غزة حتى حواف المجاعة وتقصف ويتكرر تدميرها بمعدلات متسارعة تحت أسماء توراتية، في تمارين على الإبادة القادمة التي تحدث الآن.
ولكن الرئيس يواصل تمرير فكرته في ما يشبه متلازمة لا منجاة منها ولا خلاص، بحيث تبدو الإبادة المتواصلة التي تنفذها إسرائيل منذ نشوئها ردة فعل على أخطاء فلسطينية أو قرارات غير محسوبة بدقة.
في تعريف "الإبادة" يدخل كل ما ذُكر سابقاً في إطارها، إبادة الحقوق الطبيعية للفلسطينيين بالحياة والحصول على الغذاء، إبادة حقوق الفلسطينيين بالعيش على أرضهم وتقرير مصيرهم والحصول على دولتهم، إبادة أحلام الفلسطينيين بالازدهار والأمان وحرية الحركة والتعلم ونوم الفتية في أسرّتهم دون الخوف من الاغتيال أو الاعتقال...
تأخذ سياسة الإبادة مظاهر متعددة وتتحرك بأقنعة مختلفة حتى تصل إلى هيئتها المروعة التي تنبح في سماء وشوارع غزة وفوق بيوتها الآن.
ولكن الرئيس لا يتغير ولا يتململ على الكرسي الذي جلس عليه في حديقة البيت الأبيض قبل ثلاثين سنة.
في قراءة أخرى وضرورية يذهب مثل هذا الحديث ليصب في طاحونة الانقسام التي تدور منذ أقل من عقدين بقليل، الانقسام الذي تحول إلى واقع مع انقلاب حماس وسيطرتها على غزة.
يمكن القول بثقة إن هذه الحرب نبتت على هذه الأرضية، وهو ما يتحمله الطرفان الرئيسيان في المشهد الفلسطيني، السلطة وحماس، هي الابنة المتوحشة للجدار الذي وجد الفلسطينيون مشروعهم الوطني ومصائرهم الشخصية أمامه، ويمكن الاسترسال في العبارة إلى أنها شكّلت نوعاً من الحل للواقفين بيأس أمام الجدار.
الانقسام الذي تحول، عبر رعاية واضحة من الطرفين، إلى ثقافة لها نظرياتها ومتنها وهوامشها، وتحولت إدارته، الانقسام، إلى سياسة قائمة بذاتها استغرقت المساحة الأكبر من نشاط وحركة النخب السياسية الفلسطينية وغذت يأس وهموم الشارع الفلسطيني.
ولكنهم في إسرائيل، وفي حكومة نتنياهو على وجه الخصوص، ليسوا بحاجة إلى ذرائع لمواصلة قتل الفلسطينيين وتهجيرهم وتجريدهم من الأرض والحقوق البشرية، الإبادة هي البرنامج الذي وصلوا عبره إلى الحكم في انتخابات "نزيهة".