النهار

النهار

روبرت فيكو.. آخر الضّحايا؟
عمّار الجندي
عمّار الجندي
المصدر: النهار العربي
لن تكون أوروبا في معزل عما يجري في سلوفاكيا. فمحاولة اغتيال زعيم من هذا المستوى هي الأولى في القارة منذ اغتيال رئيس الوزراء الصربي زوران ينديتش في 2003.
روبرت فيكو.. آخر الضّحايا؟
سلوفاكي مؤيد للحكومة يلوح بعلم بلاده أمام المستشفى الذي يعالج فيه فيكو (أ ف ب)
A+   A-
فيما كان رئيس الوزراء السلوفاكي روبرت فيكو (59 عاماً) لا يزال تحت مبضع الجراح بعدما وضعت خمس رصاصات حياته على كف عفريت ظهر الأربعاء الماضي، أخذ نواب حزبه (سمر) يتهمون خصومهم بإشاعة "الكراهية" التي هيأت الجو لاستخدام العنف الذي هدد حياة زعيمهم. إلا أن وزير الداخلية ماتوس سوتاي إستوك وضع إصبعه على الجرح حين قال: "نحن على شفير حرب أهلية". 
 
الانقسامات العميقة التي تعانيها سلوفاكيا هي من صناعة الطبقة السياسية التي تنامت أخطبوطياً على أنقاض الاتحاد السوفياتي منذ انهياره عام 1989. والزعيم الجريح هو المايسترو الأهم الذي قاد هذه التطورات. أمسك بالسلطة خلال الشطر الأكبر من هذا القرن، كرئيس للوزراء في ولايتين (2006-2010 و2012-2018)، وقد باشر الثالثة في تشرين الأول (أكتوبر) الماضي.
 
إنه يجمع بين صفات ترامبية بارزة، بينها الشعبوية والرغبة في الانتقام ممن "ضايقوه" والوطنية المفرطة. كما أنه يشبه صديقه فيكتور أوربان، رئيس وزراء المجر، لا سيما لجهة تأييده فلاديمير بوتين في حربه على أوكرانيا ومعارضته الاتحاد الأوروبي في كل فرصة سانحة. هذا الوضع السياسي الذي يسوده الاستقطاب يدفع المرء إلى التساؤل: أي نفق مظلم دخلت فيه سلوفاكيا يوم الأربعاء؟ 
 
ولن تكون أوروبا في معزل عما يجري في سلوفاكيا. فمحاولة اغتيال زعيم من هذا المستوى هي الأولى في القارة منذ اغتيال رئيس الوزراء الصربي زوران ينديتش في 2003. 
 
في هذه الأثناء، ليس واضحاً ما إذا كان فيكو سيتماثل للشفاء في المديين القريب أو المتوسط. أما إذا عانى مضاعفات قد تمنعه من استئناف مهماته، فستكون ضربة موجعة لقطاع عريض قاده منذ أسس حزبه "سمر" (عام 1999). ومن سخرية القدر أن تنتهي ولايته الثالثة قبل الأوان بسبب حادثة دموية. فقد طويت صفحة ولايته الثانية في ظروف مماثلة حينما سالت دماء بريئة في جريمة راح ضحيتها شابان: الصحافي الاستقصائي يان كويساك (28 عاماً) وخطيبته مارتينا كوسينزوفا. كان الشاب يعمل باجتهاد وكفاءة لفضح فساد مسؤولين في الحزب الحاكم، فقرروا أن يكموا فمه إلى الأبد بمساعدة قاتلين مأجورين. وأجبرت الاحتجاجات الحاشدة فيكو وحكومته على الاستقالة في ربيع 2018. 
 
وبعد خروجه من السلطة، خضع فيكو مع العديد من أنصاره وبينهم وزراء وضباط أمن وقضاة، للتحقيق. واعتقل في نيسان (أبريل) 2022 ووجهت إليه تهم بالفساد والعلاقة بالجريمة المنظمة، لكنه نجح في إسقاطها لاحقاً! وعندما تسلم مقاليد الأمور من جديد قبل أشهر، عمد هو ومساعدوه إلى إنهاء خدمات العديد من ضباط الشرطة الذين كانوا وراء توجيه الاتهامات إليهم. وهو يمضي على خطى أوربان وحزب "القانون والعدالة" البولندي في إدخال تعديلات على القوانين والتشريعات لجعلها "مناسبة" للبطش بالإعلام ولحجب حريات والتضييق على أخرى.
 
الفساد لا يقتصر على أصحاب الأمر والنهي في سلوفاكيا، بل كان ولا يزال مشكلة المشكلات فيها. قصتها لا تختلف كثيراً عما جرى في دول أوروبا الشرقية بعد سقوط الاتحاد السوفياتي السابق. انهار نظامها الشيوعي فذهبت مباشرة إلى نقيضه الرأسمالي، فيما هيمن عليها رجالات "العهد البائد" الذين وظفوا علاقاتهم لجني الأرباح الطائلة من الخصخصة التي شهدت بيع معظم الأصول العامة عبر مناقصات تم التلاعب بها. وانفصلت البلاد في 1993 عن تشيكيا التي شكلت وإياها دولة تشيكوسلوفاكيا على امتداد 75 عاماً، فشدد الأوليغارشيون قبضتهم على سوق الفساد في سلوفاكيا. وعندما انضمت إلى الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو في 2004، صارت الأبواب مشرعة أمامهم لاختبار مهاراتهم في الخارج.
 
كان رئيس الوزراء في ذلك الوقت يمضي يميناً بخطى ثابتة بعيداً عن اليسار الاشتراكي الذي تبناه منذ أوائل مرحلة ما بعد الشيوعية. وبلغت شعبويته حداً غير مسبوق بعد خروجه من السلطة في 2018. وراح يدّعي لنفسه ولحزبه الوطنية على طريقة ترامب وأوربان وآخرين. اتخذ من الاتحاد الأوروبي خصماً لا مجال للتصالح معه، كما ملأ الدنيا ضجيجاً ضد حكومة بلاده التي دعمت الجارة أوكرانيا بقوة وكانت سبّاقة بين دول الناتو إلى تزويد كييف طائرات مقاتلة. وعندما عاد إلى الحكم في خريف 2023 كانت الفجوات قد اتسعت بين الليبراليين والقوميين الجدد من أمثال فيكو الذي اتهم ذات مرة الرئيسة الليبرالية زوزانا تشابوتوفا بأنها "عميلة أميركية". 
 
من السابق لأوانه البحث عن الأسباب المباشرة أو محاولة فهم الملابسات، فطلاسم جريمة رئيس الوزراء السويدي أولاف بالم في 1986 لم يجرِ فكها إلا بعد 34 عاماً. والتعرف إلى دوافع مطلق النار الذي وصفته سلطات سلوفاكيا بـ"ذئب منفرد" قد يستغرق وقتاً غير قصير. 
 
والحق أن المعتدي شخصية محيرة. فهو في الحادية والسبعين من العمر، عضو في "جمعية الأدباء السلوفاكيين" وشاعر سبق له أن حذر من العنف الذي يسمم مجتمعه، وينتمي إلى منظمة شبه عسكرية مؤيدة لروسيا. مع هذا، صوّب مسدسه في وضح النهار إلى رئيس الوزراء صديق روسيا الحميم! قيل إنه حاول قتله لأنه غير راض عن سياسات حكومته، أو ربما سعى إلى ترجمة عنوان إحدى قصائده، "حلم شخص متمرد" إلى واقع ملموس.
 
واللافت في محاولة الاغتيال أنها اعتداء مباشر على الديموقراطية بطريقة مضاعفة. رئيس الوزراء منتخب يحظى حزبه بأكبر حصة من المقاعد البرلمانية ويقود ائتلافاً حاكماً. من جهة أخرى، يُستشف من تصريحات المسؤولين في الحزب والحكومة أنه قد يستغل الحادثة لمصادرة المزيد من الحريات واستهداف خصومه السياسيين. 
 
وسواء رجع قريباً إلى الواجهة أم لم يرجع، فالفساد والانقسام باقيان. وهذا ما يجعل مستقبل سلوفاكيا مقلقاً. بيد أنها لا تنفرد بالمعاناة من خطاب العنف والخوف من الآخر، فهذا أشبه بكابوس يخيم على أوروبا. وكلما تمددت الشعبوية وراجت شعاراتها ضد الأعداء المألوفين: أوروبا والمهاجرين والإسلام والمثلية والبيئة، تعمقت الشروخ، وبات الطريق ممهداً لاندلاع العنف. 
 
شهدت ألمانيا وإسبانيا وبريطانيا وهولندا اغتيالات ومحاولات اغتيال لأسباب سياسية مع تصاعد نبض اليمين الشعبوي. خيرت فيلدرز، الهولندي المتطرف الذي يتصدر المشهد السياسي في بلاده، يعيش تحت حماية الشرطة منذ عشرين عاماً. والرئيسة تشابوتوفا تلقت تهديدات بالقتل، شأنها شأن رئيس الوزراء البولندي دونالد توسك الذي يعتبر نقيض نظيره السلوفاكي.
 
 اليمين المتطرف مرشح للظفر بمقاعد جديدة في البرلمان الأوروبي الشهر المقبل، ويبدو ماضياً في تعزيز هيمنته على عدد متزايد من دول القارة. لذا يُخشى أن فيكو لن يكون آخر ضحايا العنف السياسي في مناخ يسممه التخويف وتفسده الكراهية.