تجاوز عدد قتلى "حزب الله" المعلنين، منذ الثامن من تشرين الأوّل (أكتوبر) الماضي، تاريخ إعلان "حزب الله" دخوله في حرب "طوفان الأقصى"، سقف الثلاثمئة مقاتل، وتُظهر سلوكيات الجيش الإسرائيلي وأدبياته، توافر الخطط والنيات لرفع الخسائر البشريّة لدى "المقاومة الإسلاميّة في لبنان" إلى أقصى حد ممكن.
وفي آخر جولة قام بها رئيس الأركان الإسرائيلي هرتسي هليفي على الجبهة الشماليّة، يوم الأربعاء الماضي، طلب من قيادة المنطقة إلحاق أكبر أذى بـ"الطرف الآخر" بعد تحديد "الأهداف الصحيحة".
وفي كلامه إلى الوحدات المقاتلة في الشمال، دعا وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت، خلال جولة له أمس شملت صفد وكريات شمونة، إلى التركيز على "عدد الإرهابيين الذين تم القضاء عليهم"، كتمهيد لا بد منه، لأيّ قرار محتمل بتوسيع الحرب، مشبّهًا الوضع على الحدود مع لبنان بالوضع على حدود غزة، قبل ثلاثة أسابيع من بدء العمليّة البرية، بسبب هجوم السابع من أكتوبر الماضي.
وكلام غالانت لهذه الجهة يتطابق مع الغموض الذي سبق أن طالب به رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو، حين طلب من الوزراء وجوب عدم كشف خطط إسرائيل لـ"حزب الله"!
وفي تحقيق صحافي أجازته الرقابة العسكريّة في إسرائيل، كشف ضباط المراقبة الذين يعملون في القيادة الشماليّة أنّ مهمّتهم تقضي بتحديد المقاتلين الذين يستهدفون منطقتهم وملاحقتهم وتصفيتهم، الأمر الذي اضطر مقاتلي "قوة الرضوان" في "حزب الله"، وفق زعمهم، إلى العمل 20 دقيقة في اليوم الواحد فقط والاختباء في أماكن يعتقدونها آمنة لمدة 23 ساعة وأربعين دقيقة.
وهذا يعني أنّ هدف الجيش الإسرائيلي، حتى إشعار آخر، أي حتى انتهاء "حرب المساندة" – كما يأمل "حزب الله" - أو الانخراط في حرب واسعة، كما تضغط الجماعات التي تمثل سكان شمال إسرائيل، إضعاف "حزب الله" بشريًّا ولوجستيًّا، بحيث تنقلب "حرب المساندة" التي يخوضها "حزب الله" ضد إسرائيل إلى "حرب استنزاف" لمصلحة الجيش الإسرائيلي، من خلال التخلّص من أكثر مقاتلي الحزب خبرة، ولا سيّما هؤلاء الذين اكتسبوها في سوريا، كما هي عليه حال نائب قائد وحدة الرضوان وسام طويل الذي سبق أن اغتالته مسيّرة إسرائيليّة، أو في تدريبات تكنولوجية متقدمة جدًا تلقوها في إيران، كما هي عليه حال الدكتور في الروبوتيك محمد حسن علي فارس الذي اغتالته مسيّرة إسرائيلية في قانا، يوم الخميس الأخير.
ويعتقد الجيش الإسرائيلي، وفق تأويل المعلومات التي ينطق بها ضباطه بين الحين والآخر، أنّ "حرب المساندة" التي يخوضها "حزب الله" ضدّه، تتحوّل، كلّما طال زمنها، إلى أهم مصدر مخابراتي له، إذ إنّها تُثبت، من جهة أولى، صدقية المصادر التي يعتمد عليها في تقييم "حزب الله" وقوته العددية والصاروخية والتدميرية - وهو لم يستخف بها يومًا – وتُظهر له، من جهة ثانية، التحديّات التي عليه مواجهتها إن صدر أمر سياسي بشنّ حرب واسعة ضد الحزب في لبنان، وتسمح له، من جهة ثالثة، بتمهيد الميدان، من خلال تفتيت إمكانات "العدو" وإضعاف تحصيناته، إن وجد ضرورة لعبور الحدود، وتقوّي موقف الحكومة، من جهة رابعة، في المفاوضات الدبلوماسيّة الهادفة إلى إيجاد حل مناسب لموضوع الجبهة اللبنانية، وهو خيار لم تتخلّ إسرائيل عنه بعد، على الرغم من ضغط شعبي كبير يرنو إلى حل بقوة القهر العسكري.
ويحاول "حزب الله" أن يشيح النظر عن هذه الخسائر البشريّة الضخمة التي تجاوزت تلك التي سبق أن أعلن عنها في حرب تموز (يوليو) 2006، من خلال التركيز على نقطتين، الأولى تتمثل في ما يكشفه من أسلحة متقدمة متوافرة في ترسانته العسكريّة، والثانية ترويجه لخسائر بشرية ضخمة ألحقها بالجيش الإسرائيلي الذي يصر على إخفائها.
ويعتمد "حزب الله"، منذ مدة، أسبابًا مغايرة لما أعلنه من أهداف للحرب، بحيث بات يروّج بأنّه اعتمد مصطلح "حرب المساندة" تعاطفًا مع غزة، في حين أنّه، في الواقع، يخوض حربًا استباقيّة ضد إسرائيل التي كانت تخطط للانقضاض على لبنان، بمجرد أن تضع الحرب على غزة أوزارها!
ويعود هذا التعديل في الدعاية السياسية لموجبات فتح الجبهة اللبنانية - الإسرائيلية وتسبب ذلك بوقوع خسائر فادحة بالأرواح، بحيث تكاد تصبح بعض البلدات الحدودية شبه خالية من الرجال، (يعود) إلى أنّ "حرب المساندة" لم تقدّم لغزة شيئًا، فالحرب عليها مفتوحة، وفق المخططات الإسرائيلية، ولا تدخل عليها الجبهة اللبنانية أي تعديلات، ولو طفيفة، في حين أنّ التأثيرات الدولية والطالبية والعدلية تبدو فاعلة أكثر.
وبالفعل، فإنّ دعاية "حزب الله" لا تجد من يقتنع بها غير مطلقيها، إذ إنّ هناك في إسرائيل وسائل إعلام تتجاوز الرقابة العسكرية "المؤقتة"، أي الهادفة إلى أن يتبلغ أهالي القتلى "النبأ الحزين" قبل أن تصدمهم به وسائل الإعلام، كما أنّ المستوى السياسي فيها منقسم على نفسه، وينتظر أن يفجر الطرف المعارض أو الطرف المزايد فضائح "التستّر" ضد الطرف الحاكم. ولاحت مناسبات عدة، أمام إسرائيل، قبل السابع من تشرين الأول (أكتوبر) للهجوم على "حزب الله" ولكنّها امتنعت عن ذلك، وسمحت للوسيط الأميركي آموس هوكشتاين بالدخول على الخط، سواء لإزالة الخلاف على الحدود البحرية، أو لبدء مساع لإزالة النزاع حول الحدود البريّة.
ولكن، من المعروف أنّ "حزب الله" لا يقدّم تبريراته لأيّ مرجعية دستورية أو دوليّة، ما دامت "الجمهورية الإسلامية في إيران" راضية، بل هو يجهد لتوفير ما يكفي من معطيات إلى قواعده بحيث يعينها على المساجلة!
وأمام هذه الحالة، يسعى "حزب الله" منذ مدة إلى تخفيض خسائره البشرية، ولهذا، وعلى الرغم من إمكان أن يؤدي ذلك إلى تدحرج سريع نحو حرب شاملة، أخرج من مخازنه الترسانة التي لا تحتاج إلى مواجهة مباشرة، مستعملًا ما لديه من أسلحة جو - بر، كالمسيّرات والصواريخ الموجهة.
ولكنّ إسرائيل لا تحيد عن هدفها، ولذلك توسّع دائرة استهدافاتها، بحيث تغتال من تضعهم في القوائم السوداء أينما كانوا، من دون أي اهتمام بـ"قواعد الاشتباك"، في إشارة واضحة إلى أنّ الجبهة بالنسبة لها ليست محصورة بنطاق جغرافي.
إنّ ارتفاع عدد شهداء "حزب الله" الذي يضطره إلى إخراج الأسلحة المتطوّرة من ترسانته، وفي ظل توقف الحديث عن وقف النار في غزة، من شأنه، على الرغم من غياب الإرادة لدى الحزب وإسرائيل، أن يجر إلى حرب واسعة.
ولا يوجد طرف لبناني قادر على احتواء التصعيد الذي يعتمده "حزب الله"، ليس لأنّه لا يوجد من يعرف المخاطر على لبنان المنهار أصلًا، بل لأنّ الجميع عاجزون، إمّا بتكوينهم وإمّا بسبب سياسة نفعية استغلها الحزب ليفرض هيمنته على البلاد والعباد، في آن!