منذ نحو 10 سنوات، قرأت وللمرة الأولى أن ونستون تشرشل وحين سُئل عن رأيه في الشعوب أجاب قائلاً: «إذا مات الإنكليز تموت السياسة، وإذا مات الروس يموت السلام، وإذا مات الطليان يموت الإيمان، وإذا مات الفرنسيون يموت الذوق، وإذا مات الألمان تموت القوة، وإذا مات العرب تموت الخيانة».
لم أتوقف كثيراً عند هذه العبارة، إذ كنت متيقناً، لغياب مصدرها وركاكة بنيانها القائم على صور نمطية بالية، من أنها ملفقة، ولم يُستخدم اسم تشرشل هنا إلا لإضفاء قوة ومصداقية على هكذا قول فارغ، كيف لا وهو السياسي المحنك ورئيس وزراء المملكة المتحدة الذي أوصلها إلى النصر في الحرب العالمية الثانية!
كانت تصادفني هذه العبارة في فترات متقطعة، فأتجاوزها وأنا على يقيني الأول بأنها مختلقة، لكن ما يثير استغرابي حقاً أنها، وفي زمن ثورات الاتصال والذكاء الصنعي والتواصل الاجتماعي، مازالت حاضرة بشكل كبير، وتعدُّ لها التصاميم والفيديوهات للإمعان في وصولها وانتشارها، ويتبارز المعلقون في مدحها والثناء عليها والتأكيد على صحتها. وبما أنه -وبحسب حدود البحث الذي قمت به- ليس لهذه العبارة أي وجود بأية لغة أخرى غير العربية، أي أن من أعدها ونسبها لتشرشل هو بالضرورة عربي (وأستبعد احتمال أن يكون من كارهي العرب الذين يجيدون العربية)، لماذا قد يقوم أيٌّ منا ببذل كل هذا الجهد لشتم نفسه وشعبه وأمته ووصفهم بأبشع صفة يمكن إطلاقها على شعب من الشعوب، ألا وهي "الخيانة"؟! ولماذا يقوم الآخرون بعده بنشر هذه المقولة وتكريسها و"دحرجتها" حتى تصبح ككرة الثلج العملاقة؟
نحن بغنى طبعاً عن القول إن مجرد تعميم صفة الخيانة على شعب كامل، هو أمر خاطئ وبعيد كل البعد عن أي منطق، لكن هل يوجد أصلاً ما يبرر هذا الخطأ أو يفسره على الأقل؟ هل العرب خونة حقاً حتى تكون الخيانة علامتهم البارزة بين الشعوب، وهل الخيانة فعلاً محصورة بالعرب، ألا يوجد شعوب أخرى خانت العهود والمواثيق؟ والسؤال الأصعب هو لماذا يتعاظم شتم الذات وذمها عند العرب، دوناً عن أي من الشعوب الأخرى، علماً أن لأمم عديدة تاريخ حافل –أكثر بكثير من تاريخ العرب– بالأخطاء والأفعال المشينة والإبادات الجماعية وظلم الآخرين واستعمارهم واستعبادهم، ومع ذلك لا نراهم يشتمون أنفسهم أو يخجلون من انتمائهم أو حتى من الجانب المظلم من تاريخهم، فلماذا يختلف الحال عند العرب؟
والشعراء العرب يشتمون عربهم!
بين مقولة الماغوط: (ما من جريمة كاملة في هذا العصر سوى أن يولد الإنسان عربياً) وسؤال نزار قباني الذي عنون به إحدى قصائده النُواحية الشهيرة: (متى يعلنون وفاة العرب؟) حديث مرٌّ وذو شجون. إذ ما طعم حياة العربي وما قيمتها إذا كان مولده "جريمة" في نظر الأول، بينما هو في نظر الثاني ميّت منذ عهود حتى لو لم يُعلن بعد عن هذا الموت! والمعنى الذي يضمره سؤال الثاني هنا ليس إلا تشجيعاً سوداوياً للإقدام على هذا الإعلان، أي من ناحية نفسية: مواجهة حقيقةِ ما نحن عليه والكفُّ عن إنكار "أننا أموات" ولو كنا على قيد الحياة.
على أية حال، فإن "الشاعرَين" السوريين، ورغم اختلافهما الشديد في كل شيء تقريباً، كانا متفقين على ذمِّ العرب وقدحهم وشتمهم وهجائهم والتعريض بهم والسخرية منهم.. إلخ، ليس لمرة واحدة فحسب، بل في أعمال شعرية ونثرية كثيرة، ولقد استطاعا القيام بهذه المهمة بنجاح منقطع النظير ما كانا سيبلغان بعضه لو وظّفا كل ما يملكانه من قدرات أدبية في شتم عدو.
والحقيقة أن تسليط الضوء على هذين المثالين لا يعني ندرة حالة شتم العرب أو استثنائيتها، بل التنبيه لها بعدما أصبحت في زماننا شائعة الانتشار لدرجة بلغت حدّ الاعتياد عليها واستسهالها حتى لم تعد تثير أية ردة فعل، وكأنها أمر بالغ الألفة أو حقيقة تحظى باتفاق شبه تام لا تستدعي الجدل أو الاختلاف حولها.
نحن، والقول هنا للتعميم، لم نتصالح مع شتم عرقنا وذم هويتنا فحسب، بل وعلى هذا يتربى أبناؤنا منذ الصغر، سواء في خطاب الشارع أو الحياة العامة في كثير من المجتمعات العربية، أو في فوضى خطاب وسائل الإعلام ومواقع التواصل. لكن بالمقابل، ما زالت المؤسسات التربوية الرسمية تنهج نهجاً مخالفاً، فتعلي من قيمة العرب والعروبة في أغلب الدول العربية، وإن بدرجات متفاوتة. هل نقول إذن إن الأمور بخير نوعاً ما؟ أو على الأقل نسبياً؟ الجواب في الحقيقة: لا! بل إن هذا التناقض بين الخطاب الشعبوي والفوضوي من جهة، والخطاب الرسمي التربوي من جهة ثانية، يزيد الطين بلّة، وبخاصة أن غالبية العرب يعتقدون مسبقاً بأن الخطاب الرسمي خطاب كاذب، أي حين يُمدح العرب رسمياً فهم يستحقون الشتيمة!
لماذا يشتم العرب كل شيء.. حتى أنفسهم؟
الشتائم ثقافة كونية إن صحَّ وصفها بالثقافة، لا أظن أن مجتمعاً قد خلا منها، إنما تختلف المجتمعات في مدى انتشار الشتائم وكثرة ترددها على الألسن، وهو اختلاف طفيف بطبيعة الحال، وأكاد أجرؤ على القول إنَّ العرب ليسوا من المتفوقين على بقية المجتمعات في الإكثار من الشتائم، وليسوا الأقل أيضاً، بل حالهم في ذلك أقرب إلى الوسط، وهم أنفسهم مختلفون بين مجتمع عربي وآخر.
غير أن للشتيمة عند العرب وجهاً آخر أظنهم (وهذا الظن يحتاج إلى أن نتثبت منه لاحقاً) يتفوقون فيه على بقية المجتمعات دون منافس، أقصد جرأتهم التي لا مثيل لها على شتم أنفسهم، وهي جرأة لا تحتاج إلى الشجاعة قدر احتياجها إلى الجهل المتلازم مع مجموعة من الأسباب النفسية والعوامل الاجتماعية والسياسية، وحتى الدينية للأسف، تلك الأسباب والعوامل التي لم تحضر في حياة المجتمعات الأخرى كما في حياة المجتمعات العربية.
وعلى العكس من أغلب شعوب الأرض، إن لم نقل جميعها، يستسهل العرب القول عن العرب بأنهم جبناء، ومتخلفون، وكذابون، ومدّعون، ومنافقون، وكسالى.. إلخ، وأن الضمير العربي ميّت من قبل أن يولد، وأن العرب فوضويون بطبعهم كثيرو الأقوال قليلو الأفعال، وأنهم يكرهون بعضهم بعضاً.. وغير ذلك كثير مما لا أرغب بأن أسترسل فيه. ولا يقتصر كيل هذه الشتائم على ألسنة نخبة من الشعراء الغاضبين والمتشائمين وفاقدي الأمل في العرب، كالماغوط وقباني والمئات غيرهم، بل يمكن لأي عربي – مواطن عادي أو مثقف- أن يشتم العرب في مجلس أو مقهى أو شارع أو حافلة، أو على قنوات الإعلام وفي مواقع التواصل ومقالات الصحف وبعض الكتب، فلا يلقى من ردات الفعل إلا الموافقة والتأييد، وكأن ما يقوله حق واضح وضوح الشمس ولا جدال فيه.
وكما يشتم العرب أنفسهم في كل مجلس أو جماعة، فقد اعتادوا أيضاً على ذلك في كل مناسبة، يستمعون إلى الأخبار الموجعة في فلسطين.. فيشتمون العرب! يشاهدون صوراً من حياة الغرب الكريمة وتقدمه العلمي.. فيشتمون العرب! يرون شخصاً منهم يرمي علبة عصير في الشارع.. فيشتمون العرب ثم ينسون ويرمون العلبة الفارغة التي بين أيديهم في شارع آخر! يخسر فريق عربي مباراة في كرة القدم أمام فريق أجنبي.. فيشتمون العرب.. وقِس على هذا المنوال مناسبات لا تُحصى.
الحقيقة أننا اليوم وبعد تاريخ طويل من شتم الآخرين لنا، بتنا نكفي هؤلاء الآخرين هذه المهمة ونبرع في شتم أنفسنا أكثر مما كانوا يبرعون، ولأن كل عربي يعيش في الانتماء لهويته حالة مزدوجة بين الفرع والكل، فهو عربي عموماً من جهة، وله جنسيته العربية الخاصة من جهة أخرى، فغالباً ما يؤدي ذلك إلى تخفيف شعوره بالذنب جراء ما يقترفه من شتائم، بل وأحياناً إلى غياب هذا الشعور بالمطلق، حتى لكأنه ينكر تماماً، حين يشتم العرب، أنه عربي. عودوا مثلاً إلى قصيدة نزار قباني (متى يعلنون وفاة العرب؟)، لتجدوا أن الوجه الآخر لهذه القصيدة هو مديح للذات تجاوز أعلى مستويات النرجسية والتوهم، إذ أن كل خصال السوء التي يسوقها نزار في وصف العرب هو بريء منها وقد فقد الأمل في محاولة تغييرها. بكل الأحوال وقد ذكرنا القباني والماغوط، وهذا أفضل من أن نذكر مظفر النواب ونستذكر أشعاره البالغة الفحش في شتم العرب، بقي أن نتساءل: هل ثمة علاقة بين الشتيمة والشعر أكثر من كونه أحد أساليبها؟
"علم شتيمة" العرب!
هل ثمة داع لأوضح أن عنوان هذه الفقرة هو عنوان ساخر؟ لا حاجة لذلك فهو ساخر حقاً، لكن أن يكون شيء ما ساخراً فهذا لا يعني أنه غير صحيح أو غير مفيد، فالسخرية هي أسلوب وأداة، وليست هي المضمون بحد ذاته، كما لا ينفي ذلك أن يكون مضمونها جاداً وحقيقياً، وبالتالي فالسخرية قد توصلنا إلى نتائج جادة ومفيدة لفهم ما نحن بصدد محاولة فهمه.
يُعد عمر العرب اليوم (كشعب حاضر ومتصل بتاريخه) من الأعمار المتوسطة القريبة إلى أن تكون طويلة، ثمة شعوب أخرى حية تسبقها (الصين والهند والفرس مثلاً) ولكن أغلب الشعوب تُعدّ لاحقة عليها، ورغم التغني المبالغ به كثيراً بتحضر العرب قديماً، فإن آثارهم المادية القديمة فقيرة تكاد تكون نادرة، وربما السبب في ذلك قلة عددهم وطبيعة مناخ الأرض التي استقروا فيها (وبالأخص جزيرة العرب) وعزوفهم عن إنشاء المدن نتيجة اضطرارهم الدائم للتنقل والترحال بحثاً عن ماء أو صيد أو هرباً من غزو. أما آثارهم الثقافية القديمة فكانت أفضل نوعاً ما، فقد برعوا في الشعر وفي تكوين منظومة اجتماعية وأخلاقية ودينية مثيرة وخلّاقة.
لقد عاش العربي على الغزو والصيد وتربية الأنعام، وعلى بعض أشكال التجارة البدائية، احتقر الزراعة والحرث لأنه افتقر لأسباب نجاحها، حتى الزراعات القليلة التي وُجدت كانت أعمالها مناطة بالعبيد الذين مثّلوا شريحة واسعة غير معترف بها في المجتمع. ولأن الأعرابي كان يسافر وحده في الصحراء أو في مجموعة قليلة، وكان يترك أهله ليالي طويلة في مناطق قفرة وبلا حماية، فقد كان ذلك سبب في إعلاء القيم الأخلاقية التي تُكرس يقظة الضمير الفردي والتزامه الذاتي بعدم الاعتداء على الآخر، لذلك اعتنى العرب بقيم المروءة وإغاثة الملهوف والوفاء بالعهد والكرم والشجاعة، لكن أيضاً اكسبتهم قساوة الظروف طباعاً ومزاجاً حاداً. من جهة ثانية.. ولأن العرب اقتصروا على مؤسسة القبيلة لتنظيم شؤونهم العامة في ظل غياب مفهوم الدولة ذي السلطة المركزية التي بها يكون ضمان حقوق الناس وأمنهم، فقد جعلهم ذلك أهل ثأر وغزو، واعتداد بالنفس مبالغ به، وطالبي حرية فوضوية وقريبة من أن تكون مطلقة.
إذا كانت حال العرب على هذه الحال، وكان الشعر أفضل إبداعاتهم ومستودع ثقافتهم ومعرفتهم وقيمهم، فهل لك عزيزي القارئ أن تتوقع ما هي الموضوعات التي سيتناولها شعر العرب وما هو تأثيره فيهم؟ الجواب هو ما نعرفه جميعاً: الغزل لأنه المعبّر عن الحب والمدفوع بالحاجة للجنس وحفظ البقاء، ثم الفخر والمدح والهجاء والحكمة ووصف الناقة (دليل الثروة) والخيل (دليل الفروسية) وتسجيل وقائع الحرب والصيد باعتبارها الأحداث الأهم في حياة الفرد والقبيلة.
ولكي نوضح المقصود من "علم الشتيمة" عند العرب، سننتقي موضوعين اثنين من موضوعات شعرهم، المدح (والذي ينطوي على الفخر أيضاً باعتباره مدحاً للذات) والهجاء. وإذا كان الفخر هو تسويق العربي لنفسه ولقبيلته تأكيداً لهويته ووجوده وإثباتاً لقوته، فالمدح يعمل على ذلك من جهة، وهو من جهة أخرى مصدر دخل للكسالى من الشعراء الذين ينبغي أن يكونوا ميسوري الحال ويتفرغوا للأدب تفرغاً تاماً، فلا ينشغلون بأعمال شاقة من جهة، ولا يتعرضون للموت في غزو أو صيد من جهة ثانية، وهذا لا يكلفهم إلا أن يطلقوا ألسنتهم بالمديح ويكفوها عن الشتم فتنهال عليهم العطايا من ممدوحيهم، فيا له من عمل سهل ومريح وذي مردود مجزٍ!
عن الشخصية العربية "خواطر سريعة"
الشتم عنف، وهو أكثر أنواع السلوك الإنساني ارتباطاً بمفهوم الشخصية من جهة معناها الذي يُستخدم في علم النفس، فهو (أي الشتم) يرتبط بالانفعالات والرغبات -المدرَكة منها وغير المدركة- التي تُعدّ الشخصية مستودعها الرئيس.. ونحن حين نشتم كوننا عرباً فإننا نمارس هذا العنف ليس تجاه بعضنا بعضاً فحسب، بل وتجاه ذواتنا بالدرجة الأولى. ولأن الشتم عنف فهو نكوص في الاعتداء على الآخر عبر أسلوب لفظي بسبب العجز عن ممارسة هذا العنف نفسه بأسلوب مادي، وبكل الأحوال فإن ممارسة العرب للعنف بين بعضهم بعضاً قد عرفت جميع الأشكال، اللفظية والمادية، وعلى مدار مئات السنين.
أما السؤال: كيف وصلنا إلى هذه الحال؟ وما هي الآثار المترتبة عليها في واقعنا؟ وكيف نميّز الصحيح من اسبابها عن المزيف والملفق؟ فهذه قصة طويلة وذات شِعب، ولها عوامل متعددة، بعضها مرتبط بحاضرنا وبعضها الآخر متراكم يعود إلى قرون سابقة، وسأحاول في ما يأتي مقاربة بعض هذه النقاط وبما تسمح به شروط عدة.
وعندما نتحدث عن الشخصية العربية هنا، فنحن نقصد الشخصية الجمعية باعتبارها الناتج الكيفي لشخصيات الأفراد دون تحديد فرد بعينه، أي الخصائص والسمات العامة التي تغلب على العرب وتميزهم -إيجاباً أو سلباً- عن غيرهم، والتي يمكن رصدها من خلال سلوكهم الجمعي وقيمهم التي توجه هذا السلوك. أما من جهة كون الشخصية العربية موضوعاً للمعرفة، فهذا اختصاص واسع لا يمكن تعيين حدوده أو فروعه، كما لا يمكن الإحاطة به وقول كلمة نهائية فيه، وقد خاض فيه الكثيرون، عرباً وغير عرب، قديماً وحديثاً، وما زلنا نخوض فيه حتى اليوم، وسنبقى كذلك طالما أن مفهوم الشخصية ليس بالمفهوم الناجز أو المنتهي، بل يبقى متغيراً لا ينزع نحو الثبات أو الاستقرار. ولكن ذلك لا يلغي بأية حال وجود مكونات جوهرية وثابتة نسبياً، وهي التي تستحق الوقوف عند بعضها ضمن سياق ما نحن بصدد إكمال الحديث فيه.
- إرث اللغة والتاريخ:
نحن العرب الواقعين بين شرق وغرب، لنا تاريخ مع لغتنا يمتد لأكثر من ألفي عام، وللشخصية العربية علاقة وثيقة مع هذه اللغة لا تقف عند حدود التعبير والتواصل فحسب، فاللغة هي مستودع اللاوعي الجمعي بما فيه من قيم وأفكار ومعتقدات، لذلك فنحن محكومون للقيم ذاتها التي كانت سائدة منذ العصر الجاهلي، وبدلالاتها الأصلية القديمة، خذ "الشجاعة" مثلاً، والتي إذا أردنا التفكير فيها فسرعان ما تقفز لأذهاننا صورة عنترة المتخيلة، أو فارس على حصان يحمل بيده سيفاً، فارسٍ بعقلية جاهلية عصبية، يغضب لغضب قبيلته مظلومة كانت أو ظالمة، يقبل على الموت ولا يهابه، فيدخل الصراع إما قاتلاً أو مقتولاً. كيف إذن سنتمثل الشجاعة كقيمة في حاضرنا اليوم بعد أن صار السيف في المتحف وسيق الحصان إلى حلبة السباق؟ هذه العوامل البسيطة تصنع فجوة كبيرة بين الشجاعة كما نتخيلها وبين الواقع كما نعيشه، لذلك ومن معيار تصورها القديم هذا نستسهل دائماً أن نشتم العرب ونعيرهم بالجبن، وأن نصف سيوفهم بأنها خشب كما قال نزار قباني في القصيدة التي سبق ذكرها. وقس على هذا قيماً كثيرة، كالكرم الذي كان يعني أن تُدخل الضيف بيتك ولا تسأله عن سبب قدومه إلا بعدما تمضي ثلاثة أيام. ومثلها المروءة التي لا يعرف كثيرون معناها اللغوي وأوجه اشتقاقها، أو إغاثة الملهوف الذي قد يكون فاراً من العدالة ليلجأ إليك.. إلخ.
أما عن إرث التاريخ فحدث ولا حرج، إذ رغم أنه تاريخ طبيعي فيه الصعود وفيه النزول، مثله كمثل تاريخ أي أمة أخرى، ما زلنا نراه أهم من حاضرنا وأعظم، وما زلنا نجلد أنفسنا بسياط الشعور بالدونية وجلد الذات أمام أسلافنا، والأخطر من ذلك كله أن أغلب مشاريع نهوضنا التي نتخيلها اليوم هي السير إلى الأمام وعيوننا إلى الخلف، فكيف عسانا نبصر طريق النهوض والتطور؟
- هزائم غير منتهية الصلاحية:
رغم نظرة التبجيل والتقديس لتاريخنا، نحمل أيضاً نظرة أخرى متناقضة تماماً، إذ أن خروج العرب من جزيرتهم بعد الإسلام، وامتدادهم على مساحات واسعة غرب أسيا وشمال إفريقيا (وبعض أوروبا في مرحلة ما)، ولقرون طويلة، جعلهم يخوضون حروباً كثيرة، ومن الطبيعي إذن أن يتلقوا هزائم كثيرة، ومشكلتنا اليوم أننا ما زلنا نستحضر هذه الهزائم، فما زال العربي يتباكى على الأندلس التي لن تعود، وعلى الدولة العباسية آخر إمبراطورية عربية على أرض عربية، وعلى أجزاء واسعة من إفريقيا وصلتها سيوف العرب تحت راية الإسلام ثم انكفأت عنها، أو الأهواز التي عاش فيها العرب أكثر من أربعة قرون، أو المناطق العربية جنوب تركيا التي فقدها العرب حديثاً بسبب الاستعمار، والذي هو بدوره حمل أكبر عدد من الهزائم في أقصر وقت، إذ لا يكاد يخلو تاريخ دولة عربية منه.
هذه الهزائم كلها بقيت حاضرة في لا وعينا، نستعيدها في كل مناسبة كلما مرت في وعينا هزيمتنا الحديثة بضياع فلسطين وقد دخلت عقدها الثامن، أو هزيمة العراق المعاصرة مطلع الألفية الثالثة، والتي لم تزل آثارها ماثلة في حاضره اليوم. لذلك بتنا نستحضر مقولة أن (العرب شعب انهزامي) وكأنها القدر الذي لن يفارقنا أبداً.
- حاضرنا المَدَني ولا وعينا القَبَلي:
لم تعد المدنية اليوم خياراً تختاره الأمم إن أرادت أو ترفضه إن أرادت، بل هي واقع لا بد منه، فإما المدنية وإما التخلف والبدائية. والمدنية مفهوم واسع متعدد الجوانب لا يقتصر جوهره على وجود المدينة ذات الأبنية الضخمة والطرقات الواسعة والتعداد السكاني الكبير، بل هي منظومة بنيوية معقدة من الأفكار والقيم والعلاقات والنظم الإدارية والسياسية والاقتصادية التي لا يكون الإنسان مدنياً إلا بتمثلها والعيش في ظلها، وبهذا المعنى ترتبط المدنية ارتباطاً مباشراً بمفهوم "الدولة المعاصرة" وبنائها المؤسساتي. ولكن.. ورغم الدول العديدة التي تتزاحم على الجغرافيا العربية، ويعيش فيها العربي بجسده، لكن وعيه ما زال خارجها، إذ ما زال العربي يستشعر هويته في القبيلة أو الطائفة أو الجهة أو المنطقة، يسمي نفسه مواطناً ولكنه لا يعرف شيئاً عن المواطنة، فتراه ينظر للوطن كقدر محتوم لا يد له فيه، وللسلطة كخطر محتمل يتقي شره، وللقانون العام كقيد يشعر بالسعادة كلما استطاع مخالفته أو الالتفاف عليه.
قد لا يتحمل الفرد العربي كامل المسؤولية عن واقع هذه العلاقة غير الطيبة بمواطنيته ودولته، ولكنه يتحمل مسؤولية تقاعسه عن السعي إلى تغييرها، وعن المشاركة الجادة في الشأن العام، وعن اختلال مفهوم الحقوق والواجبات المدنية لديه، مكتفياً بشتم السلطة سراً، وشتم المجتمع المتخلف -الذي "ابتلي" بالعيش فيه- علناً، جاعلاً تصوره عن الحرية المدنية أنها ذاتها الحرية الفوضوية التي كان يعيشها أجداده في صحراء العرب.
- الفرد أم الجماعة؟ معضلة المحاسبة والمعاقبة عند العرب:
ذهب كثير من مثقفي العرب إلى أن الفرق النوعي الذي يصنع الاختلاف الحاد بين المجتمعين العربي والغربي هو أن العرب يقدمون الأسرة على الفرد، بينما يقدم الغربيون الفرد على الأسرة، أي أن الأسرة تمثل الوحدة الأساسية للمجتمع الأول، بينما يمثلها الفرد في المجتمع الثاني، ومن منظور هذا الفرق البنيوي حاولوا تفسير التباين الحاد بين الطرفين، سواء في التربية أو التعليم أو علاقات القرابة أو القيم أو الحريات، أو في مجموع ذلك كله والذي يعكسه التناقض الحاد بين الشخصيتين العربية والغربية، حاول عدد من هؤلاء المثقفين أن يثبتوا من خلال هذا الرأي أن الفرق بين المجتمعين هو تمايز بين حضارتين لا تتقدم إحداهما على الأخرى، بينما ذهب آخرون أبعد من ذلك، فاعتبروا أن المجتمع العربي، ولأن الأسرة هي الوحدة الأساسية فيه، فهو الأكثر تقدماً من جهة الأخلاق والآداب العامة والقيم الروحية والعلاقات الاجتماعية (بالمناسبة هذه ليست مزحة، بل اعتقاد شائع عند كثير من نخبويي العرب وغالبية العامة).
على أية حال، لسنا الآن في سياق مناسب لنناقش الأخطاء الكثيرة والكبيرة التي ينطوي عليها التحليل أعلاه، ولعله يكون موضوع مقال لاحق، ما أريد التنويه إليه سريعاً هو أن الأسرة في هذا التحليل ليست سوى التجسيد الأكثر وضوحاً للجماعة، قبيلة كانت أو طائفة أو فئة أو طبقة، ذلك لأن العربي لا يمكن أن ينتمي إلى أي من هذه الجماعات، ولا يُقبل فيها، كفرد مستقل بذاته وإنما من خلال أسرته، بمعنى أدق: يحرص العرب على أن لا يعلو صوت الفرد على صوت الجماعة "الأسرة الكبيرة"، وهذا أحد أهم أسباب التعصب وغياب حرية التفكير ورفض النقد وعدم التسامح في الرأي في فضائنا العام. فالعربي حين يُكفّر من يخالفه المعتقد فهو لا يدافع عن إيمانه الشخصي بل عن عقيدة الجماعة التي ينتمي إليها، وهو لا يشتم حرية التفكير إلا لأنها تفكير خارج صندوق الجماعة، ويكون شديد الغضب حين يُنتقد في قول أو فعل لأنه يحرص على تبني موقف الجماعة في كل ما يقول ويفعل.
- الدين واحد.. لكن المتدينين كُثُر:
يمكن القول إن الإسلام هو دين العرب بالكلية، دون أن ينفي ذلك وجود مسيحية عربية حرص الإسلام على استمرارها والتعايش معها. ورغم أن الإسلام كان طريق توحيد أسهم في منح هوية الشخصية العربية تماسكاً ووحدة في الظاهر، إلا أن العرب سرعان ما تنازعوا فيه وتوزعوه كما يتوزعون قبائلهم وعشائرهم، حتى أصبح الانتماء للطائفة مقدماً على الانتماء للدين، بل لقد أصبحت الطائفة هي من يُعطي المصداقية والمشروعية للدين وليس العكس، فاختلف العرب وتفرقوا تحت اسم العقيدة التي كان ينبغي أن توحدهم، حتى أن السيوف التي رفعوها على بعضهم دفاعاً عن طوائفهم لم تكن أقل من السيوف التي رفعوها على غيرهم دفاعاً عن دينهم، غير أن الصراع بينهم لم يكن بالسيوف فحسب، بل استخدموا كل سلاح ممكن، والشاهد هنا سلاح الشتائم المتبادلة التي انطلقت من على منابر المساجد بادئ الأمر، ناهيك عن كونها جزءاً من خطاب الشارع.
بمعنى آخر.. هيمنت عقلية القبيلة على الإيمان كما هيمنت على كل شيء آخر، فبقيت الشخصية العربية محصنة ضد كل ما يوحدها، وبقي المجتمع العربي مجرد جماعات متنافرة لا يجمع بينها سوى الحيّز المكاني.
وماذا بعد..؟
حاولت في كل ما سبق أن أفسر أسباب ظاهرة "شتم الذات" عند العرب لا أن أبررها، والفرق بينهما أن تبرير مشكلة ما يحمل دعوة مضمرة للتعايش معها وتقبلها، أما تفسير أسبابها فهو أول خطوات التفكير الممنهج في حلها، والذي يتضمن إزالة هذه الأسباب أو تعطيل أثرها. ورأس الأسباب باعتقادي أن العربي يقف اليوم على أبواب مدنيّة لا يستطيع دخولها دون أن يخلع عنه عقلية القبلية والبداوة، والتي استقرت في لا وعيه الجمعي منذ مئات السنين، وجعلته مُكبّلاً تجاه الإرث التاريخي الذي لا يستطيع التخلي عنه كما لا يستطيع المضي قُدُماً تحت وطأة ثقله، ناهيك عن حاضره المكتنز بالهزائم والدكتاتوريات والاستعمار والاحتلال والصراعات الخارجية والداخلية، فلا عجب بعد ذلك كله أن يختبر العربي المعاصر أعنف مشاعر الإحباط والخيبة والعجز عن التغيير، وأن يبلغ مستوى تقديره لذاته أدنى مستوياته، فيفقد البهجة بالحاضر والثقة بالمستقبل.
أمام هذه العطالة كلها، لا يجد العربي متنفساً يخفف عنه ما يعانيه من الضغط والتوتر سوى جلد الذات والقصاص منها باللعن أو الشتم أو القدح أو الذم كنوع من التطهير السلبي والتكفير الرمزي عن خطيئة شبه أصلية، ظاناً أنه بذلك يغيّر واقعه المنكر بقلبه (مشاعر الغضب والرفض) ولسانه (الشتيمة والمسبّة) وقد تيقّن عجزه عن أن يغيره بيده!
ما الحل إذن؟ وهل ثمة أمل في كسر حلقة الإحباط والعجز التي ما زال العرب يدورون في فلكها منذ مئات السنين؟
الجواب نعم! لكن ليس بواسطة الجوارح الثلاث السابقة: (اليد المغلولة بالعجز والقلب المحبط بالغضب واللسان الشتّام البذيء)، بل بالعقل النقدي الذي ينبغي أن يُصوّب تجاه تغيير الأفكار قبل الشروع في تغيير الواقع، لكن تغيير الأفكار ليس مجرد أمنية تنتظر مارداً يخرج من فانوس سحري، بل خطة عمل يقودها مثقفو العرب وقادة رأيهم وحكّامهم وحُكماؤهم، وتُفتح لها أبواب مراكز البحث وأروقة الجامعات، ويُؤسس لها علم اجتماع يُعنى بدراسة المجتمع العربي لا بترجمة النظريات الاجتماعية الغربية، وفلسفةٌ تعنى بتجديد العقلانية العربية لا بمثال أفلاطون وإله أرسطو، وعلمُ تاريخ يستحضر دروس الماضي لا معاركه ودسائسه فحسب، وعلومٌ شرعية تشرح كيف يحقق الدين النعيم في الدنيا قبل الآخرة. عندما تتحقق ثمرة ذلك كله، وحين يقول عربي عن تشرشل أنه قال: (إذا مات العرب تموت الخيانة) فلن يصدقه أحد.
لست متفائلاً بأن المهمة يسيرة وبأننا سنشهد اليوم الذي يكف فيه العرب عن شتم أنفسهم، لكننا إذا عملنا من أجل ذلك، فسنحظى حينها بخلف يشكروننا ويدعون لنا.. لا بخلف يشتموننا ويدعون علينا!