نشرت وسائل إعلام جزائرية غطّت زيارة رئيس حزب حركة البناء الوطني الإسلامي الوسطي عبد القادر بن قرينة، يوم السبت الماضي إلى ولاية (محافظة) تيميمون الصحراوية الجنوبية، مضمون دعوته التي أطلقها لحماية ما سمّاه "الأمن الفكري الوطني الجزائري" من أصحاب النوايا السيئة الذين يخلطون أوراق الموروث الوطني، ولكنه لم يذكر هؤلاء بالإسم سواءً كانوا أشخاصاً أو دولاً مجاورة.
ويُلاحظ أنّ بن قرينة لم يفصّل في حديثه عمّا سمّاه الأمن الفكري ومصادره، والأماكن التي يتعرّض فيها للخطر عبر فضاءات الجزائر العميقة.
وفي الواقع، فإنّ استخدام بن قرينة مصطلح "الأمن" في الثقافة السياسية الجزائرية، متكرّر ونمطي، حيث كثرت التنبيهات إلى خطورة اختراق المغرضين الأمن التربوي، أو الأمن الغذائي، أو الأمن الثقافي، أو الأمن الدبلوماسي الجزائري، وغير ذلك من أنماط الأمن الأخرى التي يرد ذكرها في خطب وتصريحات المسؤولين الجزائريين الكبار.
ينبغي التذكير هنا بتحذيرات مشابهة لتحذير رئيس حزب حركة البناء الوطني الإسلامي، ونجدها في الميثاق الوطني الجزائري الذي تمّ تعديله في عام 1985، وفي ملف السياسة الإعلامية والسياسة الثقافية اللذين أعدّتهما لجنة الثقافة والإعلام والتربية التابعة حينذاك للأمانة الدائمة للجنة المركزية لحزب جبهة التحرير الوطني ومكتبه السياسي في تلك الفترة بالذات. ولكن القيادات السياسية التي تعاقبت على حكم البلاد منذ ذلك الوقت، لم تفعل شيئاً يُذكر كما تناقضت أفعالها مع شعاراتها المرفوعة، وبخاصة عندما قامت باستيراد الإيديولوجية الرأسمالية وتطبيقاتها من الغرب، تحت ضغوط البنك الدولي في مرحلة الرئيس الراحل الشاذلي بن جديد، ومكّنتها من توجيه الضربة لقيم ثورة الأول من تشرين الثاني (نوفمبر) 1954 التي ناهضت طوال فترة التحرّر الوطني هذه الإيديولوجيا.
من الواضح أنّ عبد القادر بن قرينة، يقصد بتحذيره من "الأمن الفكري" التي وردت في كلمته في تيميمون، وفي التصريحات التي أدلى بها هناك لوسائل الإعلام الجزائرية التابعة للسلطة الحاكمة أو للقطاع الخاص، ما تواجهه مرجعيات الفرق الصوفية الجزائرية التي توجد وتعمل في الجنوب الجزائري المتاخم لحدود مالي والنيجر وتشاد، وهذا يعني أنّ رئيس حزب حركة البناء الاسلامي يتحدث هنا عن الجوانب الدينية والثقافة التقليدية التي تتنفس برئة التصوف الديني.
وفي الحقيقة، فإنّ الأحزاب الجزائرية التي تشكّل واجهة السلطة، أو تلك التي تُظهر نفسها كمعارضة لم تتحمّل مسؤوليتها لحماية الأمن الثقافي والفكري الوطني، سواءً في الجنوب الجزائري أو في وسط وشمال وغرب البلاد.
ففي الجنوب الجزائري ظلّت بقايا حضارة الطاسيلي، ذات العمق التاريخي الذي يعود إلى ما قبل الميلاد، مهملة في الماضي والحاضر من الناحية المادية، حيث أنّها لم تُوثق، ولم تُصنّف، ولم تُدرّس كتراث جمالي له فرادة. وفضلاً عن ذلك، فإنّ اللوحات والرسومات والبنايات ذات المعمار الجزائري الفريد من نوعه التي تعدّ بالآلاف، لم تُستثمر في مكونات مشهد الحياة الثقافية والفنية الوطنية، مثل المسرح والسينما ومختلف الأجناس الأدبية، والموسيقى والديكور المسرحي، أي أنّ جماليات تراث "حضارة الطاسيلي" لم تُستثمر لتصبح رافعة من روافع الشخصية القاعدية للهوية الجزائرية.
من المؤسف أنّ الأحزاب السياسية الجزائرية، ومنها الحزب الذي يتزعمه بن قرينة، والتي لها تمثيل في البرلمان بغرفتيه السفلى والعليا، لم تحاسب وزارة الثقافة، أو وزارة السياحة يوماً، حساباً جدّياً، على تقاعسهما وإهمالهما المعالم التراثية الوطنية، علماً أنّ الكتل الحزبية في البرلمان تملك صلاحية مساءلة الوزراء أمام الرأي العام الوطني، وفي إمكانها أن تنزع الثقة في هذا الوزير أو ذاك الوزير الآخر، إذا لم ينفّذ برامج الدولة التي للأحزاب ضلع فيها.
في حدود علمي وفي ضوء التحرّيات التي أجريتها، فإنّ الجزائر الرسمية لم تقم، مثلاً، بعملية مسح ودراسة مفاصل تنوع المعمار الوطني عبر جغرافية البلاد التي تتجاوز مليونين وأكثر من ربع مليون كلم مربع، علماً أنّ الفنان الجزائري العالمي الراحل عبد القادر فراح قد قام شخصياً بهذا المسح في منطقة الجنوب الجزائري، التي تمثل حصة الأسد من الجغرافيا الوطنية.
وفي هذا الخصوص، قال لي فرَاح في الحوار الذي أجريته معه قبل وفاته في لندن حيث كان يعمل كأحد أكبر مصممي فرقة شكسبير الملكية: "درست الفن في المدرسة الوطنية للفنون الجميلة في العاصمة الجزائرية، ومن ثم اشتغلت عند مهندس معماري فرنسي. تركت العاصمة واتجهت إلى الجنوب الصحراوي الجزائري وطفت حوله. عندما عدت من هذه الزيارة الفنية شاركت في معرض بلوحات كانت من إنتاجي الشخصي، ثم طلب مني الحاكم الإداري للمنطقة أن أقوم بإعداد ملف عمراني عن الجنوب الجزائري، فأتاحت لي هذه المهمّة الفرصة، وزرت مختلف القرى والمناطق الصحراوية وتعرفت على معمارها المتميز".
إنّ هذه الشهادة للفنان العالمي عبد القادر فرَاح تعني أنّ هناك تراثاً معمارياً جزائرياً مدهشاً وأصيلاً، له فرادة وخصوصية، ورغم توفره فإنّ المعمار الجزائري السائد منذ الاستقلال لا يصدر عن روح هذا التراث الوطني، بل فإنّ الغالب على معمار المدن والقرى الجزائرية التي بُنيت بعد الاستقلال هو الأشكال المعمارية الرديئة المستوردة أو الأشكال البدائية التي أنجزها بناؤون جزائريون أُمّيون لا علاقة لهم بفن وفلسفة العمارة لا من قريب ولا من بعيد.
المؤسف أنّ الدولة الجزائرية لم تطلب من الفنان والمصمم المعماري والمسرحي عبد القادر فرَاح ذلك الملف المعماري الذي أنجزه، علماً أنّه حاول مع وزير الثقافة الجزائري بوعلام بالسايح حينذاك أن يقنعه بضرورة العمل به، إذ كان فرَاح رساماً وأديباً ومصمماً لامعاً في باريس، وأُسندت إليه في عام 1960 جائرة "التحالف الفرنسي" في الفن والتصميم باقتراح من وزير الثقافة الفرنسي أندريه مالرو، ورفضها احتجاجاً على احتلال فرنسا للجزائر.
حتى الآن لم يتمّ أيضاً جمع ونشر التراث الشعبي الجزائري الأدبي الذي يُعتبر ركيزة من ركائز الثقافة الوطنية الشفوية، ودمجه في منظومة التعليم الابتدائي والإكمالي والثانوي، علماً أنّه يفترض أنّ البذور الأولى للوعي الوطني تُصنع داخل فضاء هذه المنظومة.