لم يكن من المتوقع أن يثير احتفال مؤسس منصة فايسبوك (ورئيس شركة "ميتا" المالكة لها) مارك زوكربرغ بعيد ميلاده الأربعين زوبعة في تونس. ولكن ذلك هو بالضبط ما حصل، إذ تناقل التونسيون بسرعة غريبة صور زوكربرغ حاملاً قميصاً أسود كتب عليه باللاتينية: "يجب تدمير قرطاج"، مرفوقة بتعليقاتهم على الصور.
الجملة المرسومة على القميص لا علاقة لها مباشرة بقرطاج ولا بتونس اليوم. يتعلق الأمر فقط بإشارة من زوكربرغ إلى فترة من حياته كان يعد فيها "لإعلان الحرب" على شركة غوغل عندما فكرت سنة 2016 في إطلاق منصة منافسة لفايسبوك.
في محاولته تحفيز مساعديه على العمل معه على مواجهة تهديد غوغل، استحضر زوكربرغ المولع بالتاريخ الروماني أيامها جملة كان يكررها القنصل الروماني كاتو الأكبر أمام مجلس شيوخ بلاده في خاتمة كل خطبه في القرن الثاني قبل الميلاد. وبالفعل دمرت الإمبراطورية الرومانية غريمتها قرطاج مع نهاية الحرب البونيقية الثالثة في سنة 146 قبل الميلاد. وبقيت العبارة منذ ذلك التاريخ تستعمل كاستعارة في سياق كلام أي طرف عن عدو له يريد تدميره.
رغم ذلك كان رد فعل التونسيين على استعمال زوكربرغ قوياً بكل المقاييس. وسلطت الزوبعة الضوء على جوانب من واقع المجتمع التونسي اليوم والعقليات السائدة فيه.
الكثيرون في تونس فهموا — ولو بعد فترة أولى كال فيها البعض كل التهم لزوكربرغ — السياق الحقيقي لارتداء صاحب فايسبوك قميصه الأسود.
لكن البعض الآخر أصر على أن في ارتداء زوكربرغ هذا القميص بالذات رسالة يجب تفكيك رموزها. من هذا المنطلق ذهبت التخمينات إلى أكثر من منحى، منها القول إن دول الشمال لا تريد لدول الجنوب خيراً وهي مسكونة بهاجس الحرب والدمار، بخاصة منها الحروب التي تستهدف منطقتنا مثل ما يحدث اليوم في غزة. وهناك بالطبع من رأى في الأمر تهديداً مبطناً لتونس وريثة قرطاج وطالب زوكربرغ بالتوضيح.
اختلفت التأويلات على المنصات الإلكترونية ووسائل الإعلام، ولكن ما كان يربط بينها في كثير من الأحيان هو التباس علاقة التونسي بالغرب. معظم التونسيين يعرفون حق المعرفة أنهم يحتاجون العالم المصنع. ولكنهم في الوقت نفسه لا يثقون بأهداف الغرب ونياته التي يرونها محصورة في محاولة الهيمنة واستغلال الدول الضعيفة.
بعكس المتوجسين من الغرب، هناك دوماً من يبحث عن فرص للربح من خلال العلاقة معه. في هذا الإطار رأى البعض في الضجة حول صور زوكربرغ مناسبة مواتية للدعاية لقرطاج ومختلف المعالم التاريخية التي تزخر بها تونس من أجل جذب السياح من أوروبا وأميركا. وهناك من تجاوز الدعوة إلى التوظيف التجاري للحدث بالمبادرة إلى إنتاج قمصان تحمل اسم قرطاج القديمة وبيعها.
ردود الفعل أظهرت أيضاً نزعة لدى التونسيين نحو اعتبار التاريخ القديم امتداداً للحاضر. من هذا المنطلق بدا أن الكثيرين يتبنون الإرث القرطاجني كإرث يهبّون عفوياً للدفاع عنه، بل هم يشعرون بأنهم مستهدفون بأي كلام لا يقدر مجد قرطاج التليد حق قدره. في هذا النطاق، ظهر زوكربرغ فجأة في المخيال الجماعي في صورة المساند لروما في حربها على قرطاج بتكراره تهديد كاتو الأكبر لها بالسحق والوبال.
ومن الغريب أن كلام زوكربرغ (حتى وإن كان مرتبطاً بتجربته المهنية الذاتية فحسب) أوقد من حيث لا يدري جذوة نار لا يبدو أنها انطفأت لدى التونسيين بخصوص تدمير روما لقرطاج. لم يغفر الكثيرون بعدُ لروما ما فعلت.
المسألة التي قد تكون الأهم بالنسبة إلى تونس اليوم هي أن الاهتمام الشديد باحتفالية زوكربرغ والجدل الواسع حول المعاني التي كان يحملها قميصه أظهرت مدى تأثير فايسبوك على التونسيين ودور هذه المنصة في توجيه اهتماماتهم.
تقول التقديرات إن هناك حالياً ما بين 7 و8 ملايين تونسي من جملة 12 مليون نسمة تعدهم البلاد يستعملون فايسبوك. وعلى وجه المقارنة يستعمل منصة إكس (تويتر سابقاً) أقل من 400 ألف تونسي.
أعداد التونسيين الذين يتابعون فايسبوك لا تختلف كثيراً عن المعدلات العالمية، حيث هناك قرابة ثلاثة مليارات شخص أو حوالي 60 في المئة من البشرية يستخدمون هذه المنصة. ولكن استعمالات فايسبوك تختلف من بلاد إلى أخرى وهي تشكل انعكاساً لواقع كل مجتمع.
في تونس أصبح فايسبوك منذ سنوات قرية افتراضية يجتمع فيها أفراد المجتمع لتبادل الرسائل حول مختلف المواضيع التي تحظى باهتمامهم المشترك (من دون أن تكون بالضرورة أهمها)، ولكن أيضاً للتراشق بالتهم والشتائم والاعتداء على خصوصيات بعضهم بعضاً.
تعكس السلوكيات على فايسبوك إلى حد كبير إشكالية عميقة الجذور تتعلق بعدم قدرة شرائح كبيرة من الجمهور الواسع على التعبير عن الاختلاف في الرأي مع الآخر من دون تشنج أو عدوانية مفرطة.
ولذلك ربما علاقة بتجربة "الانتقال الديموقراطي" منذ 2011 التي لم تتمخض عن عقلية ديموقراطية حقيقية داخل المجتمع. رسخت التجربة في عقول الناس الشكوك في دوافع النخب السياسية ونزاهة مواقفها.
تعلم الجمهور الواسع من ممارسات النخب السياسية الصراعات والمناكفات وليس أوجه الحوار البناء. بقيت المعادلات الصفرية والرغبة في إقصاء الآخر أكثر جاذبية من دعوات المصالحة والتعايش. كما كرست السّنون الماضية تقاليد "التجييش الإلكتروني" من الكل ضد الكل كما يقول بعض المنظرين. ولم يكن للنقاش على فايسبوك إلا أن يتأثر بتجربة تعددية بقي ينقصها النضج ولم تكتسب ما يكفي من الضوابط الأخلاقية التي يمكن أن ترسم لها حدوداً.
مع تغير الفصول السياسية تغيرت طبيعة المواجهات السياسية والأيديولوجية، ولكن حدة الاستقطاب والتجاذبات لم تختف. ولم تتوقف أبداً المبارزات الافتراضية بين الغرماء.
يرى بعض المحللين اليوم أن خوارزميات فايسبوك ذاتها تساعد على حشد المواقف وتوجيه أولويات الناس نحو قضايا معينة دون غيرها. ويساهم ذلك في تحديد الأجندات السياسية، وذلك بالإيحاء بأن المواقف التي يتم التعبير عنها تعكس توجهات طاغية للرأي العام حتى إن كان ذلك في الواقعة مجرد انطباع يخلقه اللغط حول بعض القضايا بالذات.
الخوارزميات نفسها التي تحكم منظومة فايسبوك حولت مستعملي هذه المنصة إلى مجموعات منفصلة ومتواجهة، يبحث كل أفرادها عما يؤكد صحة مواقفهم ويدحض مواقف الآخرين.
يرى الإعلامي عامر بوعزة أن خوارزميات فايسبوك تخدم المواقف الشعبوبة حول أي قضية. ومهما يكن من أمر فهي تساهم بكل تأكيد في توتير الأجواء المحتقنة أصلاً، ونادراً ما تفتح باب النقاش العقلاني بل تزيد في منسوب الاستقطاب بين المواقف.
لست خبيراً في الخوارزميات. لكن المرء لا يحتاج ليكون اختصاصياً في البرمجة والترميز ولا خبيراً في الذكاء الاصطناعي الزاحف في كل الاتجاهات حتى يلاحظ أن كل قضية خلافية سرعان ما تتحول إلى أزمة حادة تغمر منصة فايسبوك. الكل يدلي بدلوه بالنص والصورة والفيديو ويكيل بكل التهم والأوصاف لكل من يخالفه الرأي في انفعالية لا تهدأ.
منذ أسابيع توالت مثلاً تسجيلات الفيديو والصور المثيرة حول وجود أفارقة جنوب الصحراء في مناطق من البلاد. رافقت الاهتمام بقضية هؤلاء المهاجرين غير النظاميين حالة من الاستقطاب الشديد بين معسكرين على الأقل: معسكر ينبه إلى وجود خطر وجودي داهم يمثله تدفق أفارقة جنوب الصحراء، ومعسكر آخر يرى في الأمر مبالغة لا مبرر لها.
كانت هناك أيضاً خلال الأيام الماضية "أزمة المحامين" (إثر إيقافات شملت محامين وإعلاميين)، وما تخلل هذه الإيقافات من وقائع مصورة وردود فعل متباينة وأجواء من التوتر المتزايد.
الاشتباكات اللفظية في فايسبوك ليست حكراً على المواضيع السياسية. فحتى المباريات الرياضية أو التظاهرات الفنية والحوادث المتفرقة تصبح في عديد من الحالات مسألة خلافية تنقسم بخصوصها جموع المتابعين. وهذا الانقسام في كثير من حالاته حاد لا يبقي ولا يذر.
عقلية مستخدمي فايسبوك ذاتها تميل نحو استخدام عبارات حادة واستفزازية، إذ هناك شعور لدى الكثيرين بأنهم معفيون من كل الضوابط المنهجية أو الأخلاقية عند التعبير عن مواقفهم.
كثيراً ما تنتهي المواجهات اللفظية أمام المحاكم. بعض القضايا ترفعها السلطة ضد بعض الأفراد بمقتضى قانون النشر الإلكتروني وأخرى يرفعها مواطنون ونشطاء يرون أنهم تعرضوا للقدح والتجريح.
خلال الأيام الماضية مثلاً أعلنت مجموعة من المحامين أنها سوف تتتبع كل من تهجم على المحاماة خلال "الأزمة" الأخيرة، فيما أعلن أحد أعضاء البرلمان أنه قرر "تكليف محامين للقيام بشكايات طبق القانون ضد كل من حرض علي وعلى عائلتي" وسعى إلى "سحلي إلكترونياً، ما شكل تهديداً لسلامتي الجسدية"، بحسب قوله.
في خضم أجواء التوتر هذه كان من الطبيعي أن تؤجج الدعوة إلى "تدمير قرطاج" التي تضمنها قميص زوكربرغ الجدل بين التونسيين على منصة فايسبوك وخارجها، وتتتالى ردود الفعل بغزارة حتى ممن لم يكن يفقه في الموضوع شيئاً.
تحتاج تونس اليوم في حياتها السياسية وفي العلاقة بين أفرادها ومع العالم إلى جرعة من الهدوء تخرجها من دائرة التوتر الدائم. فمثل هذا التوتر لا يمكن إلا أن يفاقم أزماتها ويجعل فايسبوك بحراً من الأمواج المتلاطمة لا ينتفع منه إلا زوكربرغ ومن يجني معه الأرباح من الإعلانات التي تدر بها النسب العالية لاستعمال هذه المنصة.