تعد ألمانيا الرائدة في العالم في تقديم فكرة استقطاع جزء من الراتب للتأمينات الاجتماعية، إذ بدأت بذلك عام 1889 عندما كان معظم سكان الكرة الأرضية يعملون في مهن بدائية قبل أن تتمدد رقعة المؤسسات العصرية. وقد أنشأ ذلك النظام المتمدن الذي حذت حذوه معظم بلدان العالم، المستشار الألماني أوتو فون بسمارك ليقدم للعالم نظام تأمين اجتماعي يغطي التقاعد والعجز ومزايا صحية. وأوجد طريقة لتمويله من استقطاعات إلزامية من رواتب الموظفين وأصحاب العمل. ويعترف الأميركيون في موقعهم الرسمي لـ"الضمان الاجتماعي" SSA بأنهم حذوا حذو الألمان في تأمين تقاعد مواطنيهم.
في عصرنا، حتى يتمتع المرء براتب تقاعدي، تنص القوانين على استقطاع نسبة من "معاشه" يدفعها الموظف وأخرى يدفعها رب العمل. وجاءت فكرة إلزامية الأمر حتى لا يتهاون المرء في ريعان شبابه بخطورة تداعيات عدم استقطاعه ثم يدفع الثمن من بعده أفراد أسرته عندما لا يجدون من يعولهم بعد رحيله. فبعض أنظمة التقاعد توفر جزءاً من راتب الأب أو الأم بعد رحيلهما لمن يفقد وظيفته أو يصاب بعجز لا قدر الله. والأهم أن توظف مؤسسة التقاعد تلك المليارات في استثمارات مدروسة ومحدودة المخاطر للحفاظ على ديمومتها. ولذلك يتطلب الأمر حصافة في الإدارة والاستثمار وأقصى درجات الشفافية وإلا ستتعرض تلك الصناديق للخطر.
مؤشر المعاشات التقاعدية العالمي "ميرسر CFA" لعام 2022، الذي يقارن 43 منظومة للمعاشات المُستحقّة للمتقاعدين، كشف لنا بأن آيسلندا وهولندا والدنمارك تتربع على قائمة البلدان التي تنعم بأفضل أنظمة للتقاعد، إذ نالت كل منها تصنيف "A". وأفضل نظام ليس بالضرورة من يمنحك راتباً تقاعدياً عالياً، بل تلك الأنظمة التي تتمتع بالاستدامة بصرف النظر عن الضغوط الديموغرافية والاقتصادية، وتتحلى كذلك بالنزاهة، والشفافية، ووجود مزيج من الأنظمة الحكومية والخاصة التي تقدم دعماً متوازناً للمتقاعدين. فما فائدة أن ننعم بنظام تقاعدي يدر رواتبَ وفيرة، لكنه يتعرض لمخاطر جمة تحول دون استمراريته للأجيال المقبلة؟
دعيت إلى إحدى اللجان الفنية كممثل للقطاع الخاص وحظينا بالالتقاء برئيس مؤسسة رائدة في المنطقة بمجال التأمينات الاجتماعية، وشهدت اللجنة نقاشاً موضوعياً، وشداً وجذباً في محاولة لكي نظفر باستجابة لمطالب رفع المزايا التقاعدية. بعد الاجتماع أخبرني على انفراد أحد الضالعين في العجز الاكتواري بأن فكرة المبالغة في زيادة الرواتب من دون نظرة شمولية سوف تسبب عجزاً اكتوارياً، وهو ما يعني عدم مقدرة صناديق التقاعد على الاستمرار في دفع مستحقات المتقاعدين.
الصراع بيننا وبين مؤسسات التقاعد لا ينقطع آخره ما قرأته في صحيفة "النهار" من توجه محلي أو مقترح لرفع سن التقاعد لأعضاء الهيئة التدريسية في الجامعة اللبنانية والسلك الدبلوماسي إلى سن 68. وهو نقاش لا ينتهى في شتى بلدان العالم. وقد لخص تقرير مؤشر المعاشات التقاعدية العالمي "ميرسر" ذلك بتوصيته: "ضرورة رفع سن التقاعد في كل مكان تقريباً في مواجهة زيادة المخاطر الناتجة من شيخوخة السكان وانخفاض معدلات المواليد وتضخم الديون الحكومية" وفق تقرير لـ"بلومبيرغ".
وقد قرأت في التقرير أن الهند حلت في ذيل قائمة أفضل الأنظمة التقاعدية، وهي مفارقة ذكرتني بملاحظة أحد الزملاء من أن الهنود لديهم ولاء وظيفي كبير أو ميل للمكوث لأطول مدة ممكنة في وظائفهم. فهل يعود السبب إلى نظام التقاعد الهزيل أم هي ظاهرة اجتماعية؟
والواقع أنه مهما كان راتبك التقاعدي مغرياً، فسيبقى شبح التضخم بالمرصاد ليلتهم ما تبقى من قدرته الشرائية. وإذا ما عُوّمت العملة أو انهارت كما حدث في مصر ولبنان فستفقد الأجور التقاعدية مقدرتها على تأمين الحد الأدنى من متطلبات العيش الكريم. وهذا يدفع باتجاه حلول أخرى حكومية وشخصية لتأمين مصادر دخل مستدامة إلى جانب "المعاش" التقاعدي الذي سمي معاشاً لأنه "لن يعيش" كما يتندر عليه المصريون!