"إننا نكتب التاريخ "، قال خيرت فيلدرز (60 عاماً)، النائب الهولندي العتيق عند إعلانه أخيراً اتفاق حزبه "من أجل الحرية" مع أحزاب "الشعب من أجل الحرية والديموقراطية" و"العقد الاجتماعي الجديد" و"حركة المواطن - المزارع" على برنامج عمل لحكم البلاد معاً على أساسه. وعلى عادة الشعبويين الذين يعتبر السياسي المعادي للإسلام، من أذكاهم وأكثرهم جرأة واجتهاداً، تباهى بهذا "الإنجاز" وراح يصفه بعبارات وردية ثمة شك كبير في مدى واقعيتها.
تعهدت الأحزاب الأربعة، ربما باقتراح من فيلدرز المؤيد لإسرائيل بضراوة منذ عقود، دراسة إمكان "نقل السفارة إلى القدس [المحتلة] في وقت مناسب". وأكدت في البرنامج الذي يقع في 26 صفحة أن "هولندا تؤيد حق دولة إسرائيل بالوجود والأمن". وشددت على أنها "ستتخذ زمام المبادرة لإنشاء محكمة دولية من أجل محاكمة الجرائم (بما في ذلك الإبادة الجماعية) التي ارتكبها تنظيم الدولة الإسلامية". أما عمليات الإبادة التي تتواصل في غزة، فهذه أغفل البرنامج ذكرها تماماً!
ثمة وعد آخر من صناعة فيلدرز، ويتمثل في طلب الحكومة الهولندية من الاتحاد الأوروبي أن يحلها من التزام سياسته المتعلقة بالهجرة.
تعود بعض أصول هذا الشعبوي إلى إندونيسيا، وزوجته مهاجرة هنغارية يهودية. مع ذلك، انهمك منذ بداية مسيرته السياسية قبل نحو ثلاثة عقود في حرب لا هوادة فيها ضد المهاجرين! إلا أنه ليس استثناءً. تثبت التجربة البريطانية أن أبناء عائلات مهاجرة هم الأقسى من حيث البطش بالمهاجرين.
وتريد أحزاب التحالف رفض استقبال المهاجرين واتخاذ إجراءات صارمة ضدهم وتعزيز القوانين التي تسمح بترحيل بعضهم، وتقليص عدد الطلاب الأجانب. كما تحاول تعديل القوانين الأوروبية المتعلقة بالحدود المسموح بها لاستعمال النتروجين في الزراعة، وهو ما يصر عليه حزب المزارعين.
الغريب أن فولدرز اعتبر في إعلانه البرنامج أن "هولندا ستكون لنا من جديد". ولعله رغب في أن يعزف على وتر "الوطنية" التي يدعيها، والتشديد على نبرة التخويف من المهاجرين الذين يتهمهم المتطرفون الغربيون بـ"غزو" بلدانهم بقصد الحلول محل أهلها.
لكن ماذا لو قرر الاتحاد الأوروبي عدم الإصغاء إلى الشركاء بشأن الهجرة والنتروجين، ألن تكون خطة الحكم هذه أشباه بقصر على الرمال؟
إذاً، لن تكون هولندا سيدة قرارها بموجب هذه الوثيقة، كما ادعى. على العكس، إن امتثالها لبروكسل سيتعزز.
البرنامج تغاضى عن ذكر هذه الحقيقة، ومضى من تناقض إلى آخر بشأن العلاقة مع الاتحاد الأوروبي. مثلاً، يقول إن الحكومة المقبلة ستكون "ناقدة شديدة للغاية" لخطط توسعته وضمه دولاً أخرى. كيف يتساوق هذا الموقف مع تعهد الأحزاب الأربعة بتقديم الدعم "سياسياً وعسكرياً ومالياً ومعنوياً" لأوكرانيا التي تُعدّ أقوى الدول المرشحة حظاً بالفوز بعضوية الاتحاد الأوروبي!
إن صوغ الاتفاق استغرق نحو ستة أشهر بعدما تمخضت انتخابات تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي عن فوز حزب فيلدرز المفاجئ بأكبر حصة من مقاعد البرلمان (37 من أصل 150). وهذا ما أوصل البلاد إلى طريق مسدود، لأن أياً من الأحزاب لا يقبل التعاون مع سياسي يتبنى مواقف مخالفة للدستور حيال الإسلام والمسلمين. وتجاهل الزعيم الظافر في بيانه الثمن الذي اضطر إلى دفعه حتى ترضى الأحزاب الثلاثة العودة عن موقفها.
بدءاً، صرف النظر عن كل وعوده المتطرفة بشأن الإسلام والخروج من الاتحاد الأوروبي! كما وافق على عدم تولي رئاسة الوزراء، مع أن ذلك من حقه كزعيم أكبر كتلة برلمانية. وكانت هناك انعطافه ثالثة لا تقل أهمية عن هاتين، وهي إقراره بوجوب دعم أوكرانيا بقوة، علماً أنه أيد دوماً الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بقوة.
وهو قدم هذه التنازلات من أجل وثيقة لم تكن في المحصلة برنامجاً "مشتركاً" يعبر عن رغبة الأحزاب بتبني الأهداف نفسها. بل هو مجموعة نيات منفصلة، ومتناقضة أحياناً، وضعت جنباً إلى جنب بشكل تغلب عليه الفوضى. وربما كانت الوطنية المزعومة هي الرباط الوحيد الذي يشد هذه الأحزاب بعضها إلى بعض، أكثر من أي قضية. ووحدة المواقف التي روّج لها فيلدرز هي غطاء فضفاض يستر انقسامات الشركاء الذين سيشكلون حكومة نصف أعضائها من القطاع الخاص.
من جهة ثانية، يقوم الائتلاف على أساس المواقف الموقتة وليس المبادئ الراسخة. ففولدرز لم يتخلَ عن آرائه تجاه الإسلام، بل وضعها "في الثلج". ووافق مع الحلفاء على دعم أوكرانيا، معتبراً ما يجري بينها وبين روسيا هو مجرد "توتّر". هذا يعني أنه "جامل" الأحزاب الثلاثة ووضع جانباً القضايا الخلافية موقتاً.
ربما يتفاقم تأثير هذه الهشاشة في علاقات المكونات الأربعة نظراً إلى افتقار ثلاثة منها إلى الخبرة لكونها لم تدخل الحكومة من قبل. وهناك ما يكفي من التحديات الداخلية لاختبار قدرة المتحالفين على البقاء معاً.
قد لا يستطيع فولدرز المعروف بتسلطه، أن يحكم البلاد من خلف ظهر رئيس الوزراء المقبل. وربما يشعر أنصاره بالإحباط لأنه تنكر لما وعدهم به بخصوص منع القرآن الكريم وإغلاق المساجد والمدارس الإسلامية، وإخراج هولندا من الاتحاد الأوروبي. وهل ستسعفه براعاته الشعبوية في إقناعهم بأنه ليس خائناً لهم ولمبادئه المزعومة؟
وتهمة الخيانة موجهة إلى حزب "الحرية والديموقراطية" عضو التحالف. مجموعة "التجديد" الليبرالية في البرلمان الأوروبي التي أطلقها زعيمه مارك روته رئيس الوزراء المنتهية ولايته مع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون شددت على التزامها عدم التعاون مع أقصى اليمين، قبل أيام معدودة من الإعلان عن تحالفه مع فيلدرز!
أما التهديدات الآتية من الخارج، فهي كثيرة، في طليعتها إدارة التعامل مع الاتحاد الأوروبي. يوحي البرنامج بأن الائتلاف سيصطدم ببروكسل إذا مضت في تنفيذ قرار نقل السفارة إلى القدس المحتلة. كما أن سياساته البيئية الرخوة، ستضعه في عين العاصفة الأوروبية، وكذلك خططه المتعلقة بالهجرة.
يتوقع أن تقضي الأحزاب الأربعة أشهراً في التداول قبل الاتفاق على تشكيلة الحكومة ورئيسها. وصول فيلدرز وأصحابه إلى السلطة قد ينذر بأن مكانة الاتحاد الأوروبي ستتضعضع تدريجياً. وبوسع بروكسل الآن أن ترد الصاع صاعين لهذا الشعبوي وخطه المعادي عندما يستجدي موافقتها على هذه الخطوة أو تلك. السياسي الاشتراكي الهولندي فرانز تيميرمانز، نائب رئيس المفوضية الأوروبية السابق، يكاد يجزم بأن الاتحاد لن يتساهل مع الحكومة المقبلة وأنها لن تكون قابلة للعيش. وإن لم تكن صفعات بروكسل موجعة بما فيه الكفاية، لا يُستبعد أن يفقد الائتلاف الهجين بامتياز توازنه بفعل التحديات الداخلية والخارجية ويتداعى في وقت غير بعيد.