مثل شخصية الوالي في مسرحية "صح النوم" للأخوين رحباني من بطولة فيروز ونصري شمس الدين وأنطوان كرباج وآخرين، تستفيق الدولة اللبنانية للقيام ببعض واجباتها بين فترة وأخرى. كان الوالي الفاسد يحب النوم والهدايا. يستفيق مرة في الشهر ليختم بضع معاملات لأصحاب الواسطة والنفوذ ثم يعود إلى النوم...
أدركت الدولة في لبنان أخيراً أن هناك أزمة كبيرة ما عادت تحتمل هي أزمة الدراجات النارية التي أصبحت ظاهرة اجتماعية معبرة ومقلقة وخطيرة على سلامة الناس على الطرق. وللدقة هي كانت تعرف لكنها كانت تتجاهل أو تعجز أو تحتاج إلى تغطية سياسية للقيام بما كان يجب أن تقوم به قبل أن تستفحل الأزمة وتصبح معالجتها أزمة قائمة بحد ذاتها.
الانتشار الفوضوي الكثيف للدراجات النارية في لبنان هو أولاً حالة اقتصادية-اجتماعية مرتبطة قبل أي شيء آخر بتوسع كبير في طبقة الفقراء في البلد شبه المنهار، في ظل غياب الدولة عن أبسط مهماتها بتأمين نقل مشترك منظم ورخيص الكلفة يشمل المدن والمناطق القريبة منها في مرحلة أولى على الأقل. وهو ثانياً تعبير عن ثقافة متنامية في أوساط اللبنانيين عموماً والشباب خصوصاً، تميل إلى التحلل من الالتزامات الأخلاقية والقانونية تجاه الدولة وتجاه الناس الآخرين أيضاً. والدراجة النارية، ثالثاً، باتت حاجة تجد مسوغاتها وتبريراتها في أزمة الازدحام في شوارع المدن خصوصاً وفي ارتفاع سعر البنزين، وهي رابعاً تحقق لصاحبها اكتفاءً ذاتياً ومتعة ترفع منسوب الأدرينالين في دمه وهو يتلاعب بها ويسيطر على الشارع ويرعب المارة على الأرصفة وداخل الطرق.
سائق الدراجة الصغيرة في المدن اللبنانية هو غالباً شخص لا يلتزم القانون، إذا استثنينا أقلية منضبطة وملتزمة أخلاقياً ونظامياً، وحتى لو كانت الدراجة مسجلة شرعياً ومستوفية الشروط فإن غالبية "الطيارين" يرتكبون معاصي في القيادة لا تُعدّ ولا تُحصى. قائد الدراجة غالباً لا ينظر إلا في اتجاه واحد ـ إذا نظر - يمر عن الشمال وعن اليمين ويطلع من تحت الأرض ويأتي عكس السير ولا يتوقف على الإشارة الحمراء، لا يرتدي الخوذة ويستخدم آلته أوتوكاراً لنقل الطلاب وللنزهات العائلية، ويحمل عليها طاولة أو دواليب سيارة، أو قارورة غاز كبيرة، أو خزانة أو غالون بنزين...ويمسك المقود بيد ويرسل رسائل نصية على الواتس أب باليد الأخرى أو يتحدث على الهاتف...وفي كل ذلك يثير الذعر من حوله.
تسجل تقارير قوى الأمن يومياً عشرات الحوادث التي يكون سائقو الدراجات ضحاياها، ومعظمها بسبب قطعهم الإشارة الحمراء أو السير بعكس السير أو التجاوز الممنوع، وتكون النتيجة في أحيان كثيرة تحطم الرأس بسبب عدم وضع الخوذة الإلزامية على الرأس.
حسمت الدولة أمرها ونزلت إلى الشارع بقوة لتقمع مخالفات الدراجات النارية التي ضج الشارع بتجاوزاتها وخطورتها. وهو ما فتح الباب على كلام كثير مع الخطوة، وضدها، كعادة اللبنانيين الذين لا يعجبهم العجب.
لكن الدولة التي استفاقت على واجباتها البديهية بتأمين الأمن والسلامة والنظام على الطرق، لم تنتبه إلى أن دوائرها المعنية بالمخالفات وتسجيل الآليات واستخراج رخص السوق معطلة ولا تعمل، وأن المواطن المقهور، راكب دراجة أو غيره، لا يجد موظفاً يقوم بعمله، ولا حتى طابعاً يدفع بموجبه غرامة مستحقة عليه لمصلحة الدولة.
تحركت قوى الأمن الداخلي لمكافحة الظاهرة الفوضوية، وهذا حقها لا بل أدنى واجباتها، فإذا لم تفعل وجبت مساءلتها، وطبيعي أن يحتج أصحاب الدراجات المصادرة وأن يطالب من يريدون أن يكونوا نظاميين منهم بحقهم في تسهيل تسجيل آلياتهم، لكن الحقيقة يجب أن تقال وهي أن المطلوب أن تطبق الدولة القانون وبقوة حفاظاً على حياة المواطن في سيارته وفي الشارع، وخاصة على حياة سائق الدراجة بعدما بلغ استهتار شريحة كبيرة من السائقين وجهلها حداً لا يُحتمل.
في بلاد العالم كثير من الدراجات ومن سائقيها، هي هناك وسيلة نقل آمنة وأخلاقية وملتزمة القانون بحذافيره، يستخدمها الطبيب والمحامي والأستاذ الجامعي والطالب والموظف، تتنقل فيها المرأة كما الرجل. ومن أراد أن يستعرض عضلاته وبهلوانياته يذهب إلى أندية ومضامير مخصصة للسباق و"قب" الدراجة والقفز بها وعنها.
فوضى الدراجات في لبنان هي مظهر من مظاهر انعدام هيبة الدولة، ولا بأس من التشدد في تطبيق القانون وإلا ذهبت الدولة إلى التحلل النهائي. تطبيق القانون في كل شيء وليس فقط في موضوع الدراجات، فالظواهر الشاذة كثيرة والدولة واجهزتها تعرفها تمام المعرفة.
لكن المشكلة الأساسية تبقى في من يطبق القانون على الدولة وأهلها؟
وهل تكون الحملة على الدراجات ثم على الزجاج الداكن في السيارات مجرد همروجة إعلامية؟