تقصّدت الولايات المتحدة أن تكون لهجتها حيال مقتل الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي ووزير الخارجية حسين أمير عبد اللهيان باردة محايدة مائلة إلى الجفاء. عملت على ألّا يكون للحدث الجلل الإيراني أي مفاعيل تغيّر في اللهجة الأميركية المعتمدة. وبدا أمر هذه اللهجة غريباً بالنظر إلى أن البلدين اللذين لطالما حافظا على خطوط تواصل خلفية، جاهرا في الأيام الأخيرة بأن وفدين يمثلان بلديهما أجريا محادثات في مسقط.
تحدثت أنباء طهران عن أن إيران طلبت مساعدة تقنية من تركيا وروسيا ودول أخرى للعثور على حطام المروحية المنكوبة. من الدول الأخرى، وفق وزارة الخارجية الأميركية، الولايات المتحدة. وقال المتحدث باسم الوزارة ماثيو ميلر، إن إيران طلبت عوناً من بلاده، لكنه أوضح أن "الولايات المتحدة لم تتمكن لأسباب لوجستية من توفير المساعدة التي طلبتها إيران". ولم ينسَ في هذه المناسبة التأكيد على أمور عدّة:
الأول، إن "تقديم العزاء في وفاة رئيسي لا يرسل إشارات خاطئة ولا يغيّر رأينا فيه".
الثاني، التذكير بأن "رئيسي كان منخرطاً في انتهاكات مروعة لحقوق الإنسان".
الثالث، إن الموقف من إيران "لم ولن يتغيّر، وسنواصل دعم الشعب الإيراني ومواجهة دعم نظام طهران للإرهاب".
الرابع، وهو أمر تبرّع به وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن، أكّد فيه أن الولايات المتحدة "ليست متورطة في الحادث"، وأنه لم يكن لبلاده دور تلعبه في هذا الصدد.
وبغض النظر عن ضرورات ذهاب واشنطن إلى إبراز مواقف يُراد لها تأكيد ثبات مقارباتها حيال طهران، إلّا أن نفي وزير الدفاع الأميركي أي علاقة لبلاده بحادث تحطم مروحية الرئيس الإيراني، يكشف ميلاً في واشنطن إلى عدم تصديق رواية الأحوال الجوية، والاشتباه بأنه حادث مُدبّر لا علاقة لواشنطن به، خصوصاً أنه دعا إلى إجراء تحقيق لمعرفة أسباب الحادث.
والواضح أن تقارير استخبارية تدافعت على مكتب الرئيس الأميركي جو بايدن منذ اللحظات الأولى للإعلان عن تعرض مروحية رئيسي لمشاكل أدت إلى "هبوط اضطراري". والأرجح أن تلك التقارير احتوت على معطيات ومعلومات وفرضيات وسيناريوهات خطيرة، إلى درجة أن بايدن قطع إجازته وعاد إلى البيت الأبيض. ولم تشرح صحافة أميركا ما الذي اضطر الرئيس الأميركي إلى هذا القرار الدراماتيكي طالما أن الحادث "قضاء وقدر" وفق الرواية الرسمية الإيرانية.
حين قرّر بايدن أن يهرع نحو واشنطن، لم تكن طهران (وما زالت) قد أعلنت ما يمكن أن يُفهم أنه اشتباه بحصول اعتداء أودى بحياة الرئيس ومرافقيه. ولم توجّه إيران - حتى الآن - أي اتهامات لأي جهة، خارجية أو داخلية، بالوقوف وراء مقتل الرئيس الإيراني ووزير الخارجية. ومع ذلك مثّل الحدث خطورة استدعت استنفاراً أميركياً طال رئيس البلاد وفريقه.
لم يجرِ الحادث وما بعده في ظروف منطقية سليمة. تبرّع كل خبراء الأمن والطيران في تقديم الحجج بشأن لبسٍ يشكّك في الرواية الرسمية. تكاثرت الأسئلة بشأن قرار إقلاع طائرة الرئيس في ظروف جوية سيئة، وغياب أي نداءات استغاثة، وعدم تفعيل أجهزة استشعار تدل على مكان المروحية، وصمت الهواتف المفترض أنها تعمل عبر الأقمار الاصطناعية... إلخ. وما بين ما هو سؤال فني وسؤال منطقي، لم يصدر عن سلطات طهران ما يفنّد تلك الشكوك وما ينفي بشكل رسمي فرضية عملية مدبّرة، وكأن إثارة احتمال من هذا النوع تبقى واردة حين تحتاج طهران إلى ذلك ولو بعد حين.
تتعزّز شكوك واشنطن وعدد من العواصم بشأن مقتل رئيسي وعبد اللهيان بالاستناد أيضاً إلى ارتباك عبّرت عنه روايات طهران. سارع المرشد علي خامنئي، وقبل العثور على حطام المروحية المنكوبة، إلى التأكيد أن "شؤون الدولة لن تتأثر" بغياب رئيسي، وكأنه كان يودّ توجيه رسائل عاجلة وضرورية قبل الكشف عن مصير الرئيس لتأكيد الإمساك بزمام الأمور وإدارة الأزمة. تمّ بعد ذلك إعلان الأربعاء موعداً لتشييع القتلى من دون أي خطة لإجراء تحقيق يتطلب تشريحاً لجثث الضحايا للتأكّد من خلوها من علامات أو أدلة بشأن وجود انفجار من عدمه على متن المروحية في رحلتها. بدا أن طهران تقفل الملف على عجل، وهي عجلة ستترك لمخيّلة الموالين والمعارضين استنتاج سيناريوهات وفرضيات يختلط فيها الواقعي بالفنتازيا والخيال.
ستستند الشكوك إلى احتمالات التورط الإسرائيلي. فحتى وزير الدفاع الأميركي في تعليقه على هذا الاحتمال لم ينف بل نصح بإجراء تحقيق. فإذا ما كان العداء بين البلدين حافزاً وهو الذي اشتّد استعاره منذ قصف القنصلية الإيرانية في دمشق في 1 نيسان (أبريل) الماضي، فإن صراع أجنحة داخل إيران نفسها قد يكون احتمالاً منطقياً. ففي تاريخ الجمهورية الإسلامية ما يشي بالأمر منذ التفجير الذي استهدف مقر الحزب الجمهوري الإسلامي وأودى في حزيران (يونيو) 1981 بحياة آية الله محمد بهشتي (المفترض أنه كان خليفة خامنئي) و71 مسؤولاً. بقيت ظروف هذا التفجير غير دقيقة وعرضة لتأويلات غامضة. وإذا ما شهدت البلاد سياق تصفيات ملتبسة، فإن كثيراً من الشكوك واكبت ظروف وفاة الرئيس الإيراني الراحل علي أكبر هاشمي رفسنجاني في 8 كانون الثاني (يناير) 2017، خصوصاً في تلميحات ابنتي الراحل، فاطمة وفائزة في هذا الصدد. وسبق لفاطمة رفسنجاني، في مقابلة مع موقع "جماران" في الثاني من كانون الثاني (يناير) 2019 أن أعلنت أنها على ثقة بأن والدها لم يمت موتاً طبيعياً، وذكرت أنه "من خلال الأدلة التي حصلتُ عليها في هذه الفترة، أنا متأكدة الآن من أن موته لم يكن طبيعياً". وأضافت أن من قتلوا والدها "أرادوا أن يقولوا بکل تجبر: نحن نفعل ما نريد، ولا نخاف أحداً".
على أي حال، ستبقى ظروف الحدث غامضة، فيما العيون شاخصة على السُبل التي ستتمّ بها إعادة ترتيب البيت في إيران، في ظل همهمات بشأن من يخلف المرشد. ولئن استُبعد التيار الإصلاحي من أي سباق انتخابي وأًقصي رؤساء سابقون مثل حسن روحاني ومحمود أحمدي نجاد عن أي مناصب قيادية، فإن اقتصار الحكم على جناح المحافظين في السلطات التشريعية والقضائية والرئاسية (في عهد رئيسي)، لا يمنع ظهور تنافس قد يصبح شرساً داخل الجناح المحافظ بين تيارات لا تخفي الصراع في ما بينها. وأمر ما حصل وتداعياته هو من الخطورة في داخل إيران كما في خارجها، ما استدعى جدّية واشنطن في التعامل مع الحدث وإيقاظ الرئيس من نومه. فواشنطن غير مؤمنة بأن "الدولة لا تتأثر"، وفق موقف خامنئي، وغير مؤمنة بأن إيران دولة مؤسّسات لن تتأثر إذا ما غاب المرشد نفسه.