في ندوة عقدت في واشنطن عن تحولات الاقتصاد العالمي، سألت عن تراجع حصة الولايات المتحدة من الدخل القومي الكوني. أجابني المحاضر أن "الدماغ لا يستهلك إلا عشرين في المئة من الدورة الدموية في الجسم، لكن كل الأعضاء الأخرى تعمل من أجل أن يستمر في الحياة. لذلك ليس المقياس بالكمّ، بل بالنوع". وقال: "المهم أن تبقى الولايات المتحدة هي محرق العلوم وهي من يضخ المعايير للتطور التقني". تعكس هذه الإجابة بعمق المنطق الاقتصادي الرائج في واشنطن. وأرجح أن يحكم السياسة الأميركية بعد 2025 سواء بترامب أم ببايدن.
يعتقد الأميركيون أنهم ظهروا مغفلين أمام أنفسهم، إذ وجدوا أنهم يهدرون ميزات اقتصادهم فيما يستمر خصومهم في خداعهم ويسهلون عليهم منافستهم. فبعد ثلاثة عقود من سقوط جدار برلين، وفيما كانت أميركا مستمرة في دورها، حارساً استراتيجياً لمنظومة التجارة الحرة، تجد نفسها أمام دولة مثل الصين الجامحة، تدوس على أقدامها في ساحات عديدة، وقوى دولية مهمة تحاول كسر هيمنة الدولار، بينما يتراكض حلفاؤها الأقرب نحو خصومها لتعظيم مكاسبهم التجارية... الخ.
في الأصل، كان الأنصار التقليديون المخلصون لعولمة التجارة الحرة هم الجمهوريون. ورعى جورج دبليو بوش عام 2001 انضمام الصين إلى منظمة التجارة العالمية. وكان الديموقراطيون يضغطون على منظمة التجارة العالمية، كما في مقاطعة أوباما أعمال لجان التحكيم فيها.
ثم جاء ترامب ليحطم هذا الإجماع الجمهوري، وعمد إلى تقطيع حبال العولمة عبر سلسلة معقدة من الحواجز والرسوم ضد الصين وأوروبا، وكذلك عبر مراجعة اتفاقات "النافتا" مع المكسيك وكندا. ثم ركز على إعادة توطين الصناعات داخل أميركا، استرضاءً لنقابات العمال الذين كانوا يفقدون وظائفهم الآمنة.
وفي كانون الثاني (يناير) 2018، فرضت الولايات المتحدة رسوماً على طيف واسع من البضائع الصينية، بدأ من الغسالات إلى الألواح الشمسية. ورغم ذلك، نمت قائمة السلع الصينية الواردة لتصبح أطول فأطول. وبدورها، ردت الصين برسوم انتقامية وشكاوى لمنظمة التجارة العالمية.
كذلك فضل ترامب منطق الصفقات الثنائية، على الاتفاقيات المتعددة الأطراف. وأوقف المفاوضات مع الاتحاد الأوروبي بشأن اتفاقية التجارة الحرة. فقد رأى ترامب ومستشاروه في العجز الكبير في التجارة الخارجية الأميركية علامة على الضعف.
لكن بايدن لم يكن أكثر انفتاحاً، ولا أقل اندفاعاً في تفكيك العولمة! الفرق الأساسي هو أن بايدن يستخدم التجارة وسيلة لضمان ولاء الحلفاء، والضغط على الخصوم، مثل روسيا والصين.
ومضى بايدن أبعد بكثير من ترامب في السياسات الحمائية. وتأكيداً لذلك، ركزت إدارته عملياً على إعادة توطين الصناعة، وتوسيع توظيف العمال، والحفاظ على موقف قوي ضد تحديات التجارة العالمية، لا سيما مع الصين، عبر قوانين الرقائق، وخفض التضخم، وتعزيز القدرة التنافسية في قطاعي التكنولوجيا والطاقة الخضراء.
في 14 أيار (مايو) تبلورت أهم تجليات سياسة بايدن الاقتصادية ضد الصين، عبر الرسوم الباهظة على مصفوفة من البضائع، تمتد من السيارات الكهربائية، إلى بطاريات الليثيوم، ورافعات الموانئ ورقائق الكمبيوتر والخلايا الشمسية. ليذهب بذلك أبعد بكثير حتى من تهديدات ترامب.
حقيقة الأمر، تشكل هذه التدابير اعترفاً واضحاً من بايدن بأن حروب ترامب التجارية ضد الصين كانت صحيحة ومفيدة للاقتصاد الأميركي، بل لقيت استقبالاً جيداً من الجمهور.
وتأكيداً لهذا التطابق أصدر الديموقراطيون والجمهوريون في الكونغرس إنذاراً نهائياً ضد مالكي TikTok، يثير شكوكاً بشأن المبادئ القانونية الرئيسية لحرية التعبير وحقوق الملكية. وبموجب الإجراء المعتمد حديثاً، إذا لم يبع المالكون الحاليون أعمال TikTok في الولايات المتحدة، سيتم إغلاق المنصة.
وتأكيداً لهذا التطابق أيضاً، يؤيد العديد من الديموقراطيين والجمهوريين قائمة شكاوى "نافارو" ضد بكين، ويضربون المثال على أن الصين تحمي اقتصادها برسوم غير عادلة وحواجز تجارية، وتشارك في قرصنة المنتجات والتلاعب بالعملة. بالإضافة إلى ذلك، يجادلون بأن الصين تستخدم عمداً إعانات ضخمة في بعض القطاعات لإخراج الشركات الأميركية من السوق.
لكننا يجب أن نعترف بأننا لا نعرف من ترامب إلا نصفه، لكننا نجهل نصفه الآخر!
فما الذي تعنيه عملياً عودته إلى البيت الأبيض؟ رسوم تجارية أعلى؟ انعزال اقتصادي أوسع؟ حروب تجارية جديدة مع أوروبا؟ بل يعد ترامب في حملته الانتخابية بتطبيق رسوم 60% على كل السلع الصينية، و10% على كل الواردات الأخرى.
صاغ شركاء ترامب السياسيون ملامح السياسة الاقتصادية لولايته الثانية، وصدرت في دليل عن مؤسسة التراث المحافظة، "مشروع 2025"، حيث جرى هجوم قاس على اتفاقيات التجارة و"العدوان الاقتصادي" للصين. يوصي التقرير بفرض قيود صارمة على التدفقات المالية بين الولايات المتحدة والصين. ويقترح منع صناديق التقاعد الأميركية من الاستثمار في الأسهم الصينية، ومنع المستثمرين من الصين من الاستثمار في صناعة التكنولوجيا الفائقة في أميركا.
برغم أنه من غير المرجح أن يتمكن ترامب من تنفيذ بعض السياسات المتطرفة في هذا الدليل، مثل تعديل الوضع المستقل للخزانة الفيدرالية، أو تخفيض سعر الدولار، إلا أنه، ولا شك، سيركز على تخفيض الدين القومي وإضعاف منظمة التجارة والتضييق على الصين.
لكن بحسب تقدير المراقبين الاقتصاديين، في نهاية المطاف، لن تعود سياسة أكثر تطرفاً من إدارة ترامب، بمكاسب كبيرة على الاقتصاد الأميركي. لذلك، يقدرون أنه يمكن لترامب تشديد السياسة التجارية تجاه هذا البلد أو ذاك، لكنه لن يتمكن من قلب جوهر السياسات الاقتصادية الخارجية رأساً على عقب، إذ لا يمكن إلا أن تبقى الولايات المتحدة منفتحة جداً على الاستثمار من قبل الشركات الأجنبية.
علاوة على ذلك، تتيح الصلاحيات التجارية الكبيرة لكل ولاية أميركية تجاوز السياسات الفيدرالية، لتكون صمام أمان، وهذه الولايات تبدي اهتماماً كبيراً بالشراكات مع الحلفاء الاقتصاديين.
ورغم ذلك من غير المعروف أي من تهديدات ترامب سيكون ممكناً في ولاية ثانية؟ والأرجح أنه كرجل أعمال سيميل إلى منطق الصفقات.
لذلك كله، يوصي الخبراء بمن فيهم بعض حلفاء ترامب، بعدم المبالغة في تقدير الضوضاء التي قد يحدثها ترامب. ذلك أن من المرجح أن يعتمد على الموالين والحلفاء الأيديولوجيين، الأمر الذي قد يؤدي إلى سياسات مضطربة وغير منتظمة، لكن تشدده الأكبر سيكون في سياسة الهجرة، لأنها يمكن أن تسجل له نقاطاً بين جمهوره.
في نهاية الأمر نحن نعرف من ترامب نصفه فحسب، ونجهل نصفه الآخر!