قبل أيام قليلة من الانتخابات الأوروبية التي ستجرى بين 6 حزيران (يونيو) المقبل و9 منه، قرر تيار اليمين المتطرف الأوروبي أن يستعرض قوته الشعبية من خلال حشد واسع من القيادات والأنصار في إسبانيا. وقد جمع هذا الحدث الذي نظمه حزب "فوكس" والمحافظون الأوروبيون في مدريد التي كانت يوماً معقلاً للفاشية الفرنكية، تمثيلاً كبيراً لقادة اليمين المتطرف الأوروبيين والأميركيين في قصر فيستاليجري. على رأس هؤلاء زعيم حزب "فوكس" الإسباني سانتياغو أباسكال، راعي الحدث، ورئيس الوزراء البولندي السابق ماتيوس مورافيتسكي، ورئيسة الوزراء الإيطالية جيورجيا ميلوني، وأعضاء الهوية السياسية اليمينية في البرلمان الأوروبي، مثل زعيم حزب "تشيغا" البرتغالي أندريه فينتورا، ورئيسة "التجمع الوطني" الفرنسي مارين لوبان، ورئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان.
يأتي هذا الاجتماع استعداداً للانتخابات الأوروبية التي يراهن اليمين المتطرف عليها كنقطة تحول في موازين القوى السياسية داخل القارة. وتشير استطلاعات الرأي المختلفة إلى أن اليمين المتطرف من المرجح أن يحصل على 25% من مقاعد البرلمان الأوروبي المقبل. وفي تسع دول - النمسا وبلجيكا وجمهورية التشيك وفرنسا والمجر وإيطاليا وهولندا وبولندا وسلوفاكيا - من المتوقع أن تأتي الأحزاب اليمينية المتطرفة في المقدمة وفقاً للتوقعات، بينما في تسع دول أخرى - إستونيا وبلغاريا وفنلندا وألمانيا ولاتفيا والبرتغال ورومانيا وإسبانيا والسويد – من المتوقع أن تأتي في المركز الثاني أو الثالث. وعلى رغم هذا النمو المحتمل، فإن اليمين المتطرف الأوروبي منقسم إلى مجموعتين كبيرتين، وهو ما من المرجح أن يقلل من فعاليته ونفوذه. من المحتمل أن تكون المجموعة الأكبر هي مجموعة رئيسة الوزراء الإيطالية جيورجيا ميلوني التي تسمى مجموعة "المحافظين والإصلاحيين الأوروبيين"، والتي، مع ذلك، خففت الكثير من حدة خطابها السياسي والأيدولوجي المحافظ، وأصبحت نظامية وتحاول التواصل أو التعاون مع حزب "الشعب الأوروبي"، ممثل تيار الوسط.
أما المجموعة الثانية فهي التي تقودها زعيمة اليمين المتطرف الفرنسي مارين لوبان، وتسمى "الهوية والديموقراطية"، إلى جانب وجود بعض المستقلين. ورغم هذا الانقسام السياسي، فإن انسجاماً فكرياً واضحاً بين المجموعتين يجعلهما شديدتي التأثير في السياسة الأوروبية على الجانب الأكثر محافظة في العديد من القضايا إذا حققا أغلبية في الانتخابات، كما تشير استطلاعات الرأي.
لا تتمتع الانتخابات الأوروبية عادة بثقل الانتخابات الوطنية. ومع ذلك، وبمرور الوقت، اكتسب البرلمان الأوروبي صلاحيات مهمة تشكل مسار الاتحاد الأوروبي، كما اكتسبت الانتخابات الأوروبية ديناميكية سياسية جديدة. ومن بين المسؤوليات المهمة للبرلمان الأوروبي هي صوغ التشريعات، والموافقة على الموازنة الجماعية وممارسة الرقابة على عمل المؤسسات الاتحادية. ويشكل انتخاب رئيس المفوضية الأوروبية أيضاً مسؤولية مهمة، إذ تحمل الانتخابات المقبلة بعداً ثقافياً مهماً آخر بسبب الزيادة المتوقعة في قوة اليمين المتطرف. فهي قبل كل شيء مؤشر إلى نزوع يميني ذي جذور ثقافية أصبح واضحاً في المجتمعات الأوروبية المرهقة من نتائج عقود طويلة من النيوليبرالية والعولمة. ويضم البرلمان الأوروبي حالياً 705 أعضاء في البرلمان الأوروبي، ومع انتخابات حزيران سيرتفع عددهم إلى 720. وينتمي أعضاء البرلمان الأوروبي إلى مجموعات سياسية مختلفة، أهمها حزب "الشعب الأوروبي" الذي يمثل فصيل اليمين المحافظ والتحالف التقدمي للاشتراكيين والديموقراطيين.
وفي الوقت نفسه، يواجه الاتحاد الأوروبي تحديات خطيرة بسبب عدم استقرار البيئة الدولية. ومع الحرب في أوكرانيا، وجد الاتحاد الأوروبي نفسه مرة أخرى تحت الوصاية الأميركية الوثيقة، فيما خلق انقطاع العلاقات الاقتصادية مع روسيا أزمة ضخمة في الاقتصادات الأوروبية، وبخاصة في قطاع الطاقة.
من ناحية أخرى، تظل الهجرة قضية تخلق الكثير من التوترات وتسمح لليمين المتطرف بالاستفادة سياسياً من خطاب كراهية الأجانب الذي يقسم المجتمع. وهناك تحديات خطيرة أخرى مثل التحول الأخضر، والعجز في مجال التكنولوجيا الفائقة، والقضايا الأمنية.
لذلك، وعلى رغم العداء الواضح والمعلن من طرف جميع الأحزاب والحركات اليمينية المتطرفة في أوروبا تجاه الاتحاد الأوروبي، بوصفه كياناً سياسياً متناقضاً مع الخصوصيات القومية والثقافية لشعوب القارة، إلا أن هذا اليمين المتطرف أصبح أكثر سعياً للسيطرة على مؤسسات الاتحاد. وقد أشارت مارين لوبان إلى ذلك بوضوح في كلمتها أمام الحشد بالقول: "أوروبا الحقيقية، أوروبا الحرية والشعوب، أوروبا السيادة والدول، أوروبا الهوية والأمم، تحتاج إلى قواتنا المشتركة. لأن الاتحاد الأوروبي قد ألحق به الكثير من الضرر على مدى عقود".
لكن اللافت في هذا التجمع هو المشاركة اليمينية المتطرفة من خارج أوروبا، فقد شارك كل من الرئيس الأرجنتيني خافيير مايلي، وزعيم الحزب الجمهوري التشيلي خوسيه أنطونيو كاست، وممثل عن الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، ورئيس اتحاد المحافظين الأميركيين مات شلاب، إلى جانب نائب رئيس مؤسسة التراث اليمينية روجر سيفيرينو، ووزير شؤون الشتات الإسرائيلي وأحد رموز اليمين الصهيوني المتطرف عميحاي تشيكلي. وكأن اليمين الأوروبي يريد أن يشكل بصعوده إلى قمة القرار الاتحادي في القارة قوساً يمينياً متطرفاً في العالم يضم إليه أميركا الشمالية ومناطق أخرى لتشكيل "أممية يمينية شعبوية" تحكم العالم مستقبلاً.