مثل كيس ملاكمة منهك معلق خارج الحلبة، تواصل حكومة بنيامين نتنياهو توجيه الضربات للسلطة الفلسطينية، الحقيقة أن هذا يحدث منذ وقت طويل بأسباب ومن دون أسباب، ولكنه تصاعد في السنوات الأخيرة وبلغ ذروته بعد السابع من تشرين الأول (أكتوبر)، كان هذا مدبراً، القضاء على فكرة السلطة الوطنية وإخراجها تماماً من النقاش حول الموضوع الفلسطيني، ونقل هذا النقاش إلى الإقليم خارج حدود فلسطين التاريخية.
فلسفة نتنياهو وبرنامجه يقومان على هذه الفكرة، إقصاء السلطة والعودة إلى سنوات ما بعد النكبة واتفاقيات الهدنة مع دول الطوق العربي؛ مصر والأردن ولبنان وسوريا، بالضبط حين اختفت فلسطين التاريخية من الخريطة السياسية وتوزعت جغرافيتها بين "إسرائيل" المنتصرة التي احتفظت بـ78% من مساحتها بزيادة ما يقارب 22% عما منحه لها قرار التقسيم، بينما تقاسمت دول الطوق الخاسرة الـ22% الباقية، (21،6% الضفة الغربية و1،35% قطاع غزة)، التي هي الآن موضوع الدولة الفلسطينية المتعثرة.
في اتفاقيات الهدنة الأربع لم تكن فلسطين مدرجة على أي خريطة سياسية، الخطوط المرتجلة التي وافق عليها الضباط العرب الذين خسروا تلك الحرب العجيبة، كانت آخر ما وصلت إليه المنظمات العسكرية اليهودية في زحفها على فلسطين وآخر ما احتفظت به "الجيوش" العربية في تراجعها وخسارتها للأرض، وخلال عشرية الخمسينات من القرن الماضي تحولت تلك الخطوط، المرتجلة حقاً، إلى واقع سياسي ومعيشي ثابت.
كان الهدف أولاً نزع شرعية السلطة عبر تفكيك اتفاقيات أوسلو بين منظمة التحرير وحكومة إسرائيل، التي منحت، رغم نقصانها وقابليتها للتأويل، السلطة الفلسطينية نوعاً من الشرعية، ووفرت لها مساحة للتحرك، رغم ضيقها وتصنيفاتها (ألف وباء وسي) وحقول الألغام في ملاحقها، بحيث تم تجريدها من كل شيء تقريباً وتحويلها إلى صراف آلي، ويجري الآن تجريدها من هذا الامتياز وتحويلها إلى مراقب عمال منهك تحيط بنزاهته شكوك كثيرة، ولكنه يصر على أن يجلس تحت المظلة الوحيدة في الكسّارة مع زجاجة ماء باردة ومروحة يدوية، بينما تواصل الشمس حرق أجساد الحجارين وتنغرس في أيديهم حواف الصخور المسننة.
في الجانب الإسرائيلي كان الهدف تنظيف المشهد الشعبي من إرث إسحق رابين وقاموس الإشارات حول حل الدولتين وأفكار اليسار الذي تغذى على الاتفاقيات وعزز مقولاته الملتبسة حول السلام مع الفلسطينيين، بتعبير مختلف ولكن أكثر دقة، استعادة ثقافة "أرض إسرائيل" و"التفوق اليهودي" و"تعويم فكرة الشعب الفلسطيني" تحت المسمى الواسع "العرب"، وهو المسمى الذي أطلقته حكومة بن غوريون على الأقلية الفلسطينية التي واصلت بقاءها على الأرض وتشكل الآن أكثر من 20% من حاملي الجنسية الإسرائيلية، بينما حمل الذين جرى تهجيرهم صفة اللاجئين وتحولوا إلى "رعايا" الأونروا المنظمة التي شكلتها الأمم المتحدة لإغاثة الفلسطينيين وتشغيلهم.
هكذا اختفت فلسطين، وهكذا جرى إخفاء الفلسطينيين من القاموس السياسي للمنطقة، وتحول الصراع إلى "صراع عربي إسرائيلي" يتمحور حول اتفاقيات الهدنة والحدود التي رسختها تلك الاتفاقيات.
ثمة حنين واضح لدى اليمين الصهيوني لتلك الحقبة التي انبنت على النبوءات التي أطلقها بن غوريون وقادة الصهيونية في ما يشبه رباعيات نوستراداموس من نوع؛ "الكبار يموتون والصغار ينسون" أو "لا أعرف من هي الدولة العربية الأولى التي سنوقع معها اتفاقية سلام، ولكنني أعرف أن لبنان هو الدولة الثانية"، وهي نبوءات اتضح لاحقاً أنها تفتقر بشدة إلى قراءة المنطقة وتاريخها وثقافتها، وأنها قادمة من فكر استشراقي كان ضمن حمولات المهاجرين "البيض" الذين بدأوا بالوصول إلى فلسطين منذ النصف الثاني للقرن التاسع عشر، وهو الحنين الذي حوله نتنياهو إلى برنامج سياسي وعمل بدأب شديد على استعادته ولكن ضمن رؤية أكثر معاصرة وعلى أرضية القوة الإقليمية الأهم التي أصبحتها إسرائيل في أطوارها الحديثة.
محطم للاتفاقيات والثوابت والتحالفات التقليدية في الإقليم، هذا ما يمكن وصف نتنياهو به خلال سنوات حكمه الطويلة، اتفاقيات أوسلو والاتفاق النووي مع إيران، وتحريك العدو نحو إيران من خلال تعزيز الخوف من القوس الشيعي وبناء تحالفات إقليمية جديدة على ذلك الخوف، تلك هي القصبة التي استخدمها للقفز فوق الفلسطينيين المقسمين والهبوط في الإقليم وإدارة الحديث من دون بند "فلسطين".
هذا ما فعله بالضبط في العقدين الأخيرين.
هذا الاستطراد ليس شرحاً تاريخياً بقدر ما يصبح مصدرا ضروريا لقراءة ما تخسره إسرائيل الآن، وما يخسره اليمين الحاكم الذي سيطر على الدولة وما يدافع عنه أيضاً، وهو في الوقت نفسه ضروري لقراءة الهجوم الإسرائيلي، سواء في عملية الإبادة في غزة أم في الحصار وإعادة إنتاج الاحتلال في الضفة الغربية، وتفكيك السلطة الفلسطينية وإخراجها، ليس من حكم غزة، ولكن من حضورها الشكلي في الضفة وتجريدها تماماً من إمكان أن تكون طرفاً في أي حلول يمكن أن تنشأ في اليوم التالي للحرب.
لا يبدو أن الأمور تسير بهذا الاتجاه، فقد ساهم طول أمد المواجهات والعجز عن تحقيق أي هدف من أهداف الحرب على غزة، بظهور شروخ كثيرة وعميقة، أحداث غير محسوبة مثل صمود المقاومة وثورة الطلاب في العالم، وتحول رأي الشارع الغربي، وأخيراً اعتراف دول أوروبية مهمة بالدولة الفلسطينية، وهو اعتراف قد يتواصل بعد كسر الحاجز، وطلب مدعي محكمة الجنايات مذكرات اعتقال لنتنياهو نفسه بحيث يعيش الآن بين محكمة الفساد في الداخل وتهمة الإبادة الجماعية في الخارج.
برنامج العودة إلى ما بعد النكبة وحقبة اتفاقيات الهدنة يبدو أنه قد تحقق على نحو ما، ولكن بصورة مختلفة تماماً. لقد فتحت الحرب على غزة وضيق أفق اليمين الفاشي في إسرائيل خزانة الأشباح التي حرست حكومات إسرائيل إقفالها، ولا يبدو أن هناك وسيلة لإعادتها إلى الخزانة، حتى عبر حرب إبادة غير مسبوقة.