أثناء لقاء العاهل البحريني الملك حمد بن عيسى آل خليفة، بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين، في العاصمة الروسية موسكو في 23 أيار (مايو) الجاري، تحدث ملك البحرين عن علاقة بلاده بالجمهورية الإسلامية الإيرانية، قائلاً: "لقد كانت لدينا مشكلات مع إيران، لكن الآن لا توجد أي مشكلات على الإطلاق"، مشدّداً على أنه "لا يوجد سبب لتأجيل تطبيع العلاقات مع إيران".
أبعد من ذلك ذهب الملك حمد بن عيسى آل خليفة في توضيح موقف المنامة، مبيناً أن سياسة بلاده مبنية على "حسن الجوار مع جيراننا بصورة عامة وهم بلا شك كذلك"، وأن "تكون بيننا وبينهم علاقات طبيعية دبلوماسية وتجارية وثقافية".
هذه الخطوة البحرينية الصريحة، والتي يمكن وصفها بـ"الشجاعة سياسياً" تجاه إيران، ربما فاجأت الكثيرين، إلّا أن المُتتبع لتطورات السياسات البحرينية، يجد أن الحكومة تسير بتوجيه ملكي واضح نحو "تخفيف الاحتقانات" و"حل المشكلات" وتقديم المبادرات الداخلية والخارجية، بهدف تجاوز سلبيات الماضي، والتركيز على عملية التحديث والإصلاح الاقتصادي والاجتماعي والإداري في هياكل الدولة وأداء وزاراتها وأجهزتها، وهي العملية التي لها أبعادها السياسية والشعبية أيضاً، إنما تجري بهدوء وعناية، تحت سقف القانون، ومن داخل مؤسسات الدولة، ومن دون الانقلاب عليها أو هدم مكتسباتها. فالإصلاح عملية تراكمية تأخذ مدى زمنياً واسعاً وتشترك فيها المؤسسات الحكومية والأهلية، ويمثل الشعب ورفاهيته وتحسين مستوى دخله وجودة حياته أحد أهم أهدافها.
المناخات الإقليمية جاءت هي الأخرى مؤاتية للمبادرة البحرينية، فهنالك في الوقت الحالي "إشارات إيجابية بين دول الخليج وإيران، تعكس رغبة مشتركة لتعزيز العلاقات وخفض التصعيد في المنطقة، بدءاً من الحضور الخليجي الواسع في جنازة الرئيس الإيراني الراحل إلى التصريحات البنّاءة المتبادلة بشأن سياسة حُسن الجوار"، وفق ما غرّد به مستشار الرئيس الإماراتي الوزير أنور قرقاش، الذي رأى في تغريدة له على منصة "X"، أن ذلك يُشكّل "فرصة قد تكون تاريخيّة، يجب البناء عليها بما يخدم استقرار وازدهار المنطقة".
لفهم المبادرة البحرينية، من المهم قراءة سياق التطورات الداخلية والخارجية للمملكة، حيث نشطت المنامة في الأشهر الأخيرة على أكثر من صعيد، والهدف كان واحداً: دعم مناخات مؤاتية للسلام، وإيجاد حلول عملية - قانونية لعددٍ من الملفات الإشكالية التي تولّدت نتيجة أزمات ما بعد العام 2011 وما شهدته البحرين ومنطقة الشرق الأوسط من اضطرابات أمنية وسياسية.
داخلياً، وفي نيسان (أبريل) الماضي، أصدر الملك حمد بن عيسى آل خليفة عفواً "عن عدد من المحكومين في قضايا الشغب والقضايا الجنائية" وفق وكالة "بنا"، بلغ عددهم 1584 محكوماً، وهي الخطوة التي لقيت ترحيباً واسعاً من أوساط شعبية وشخصيات وطنية ودينية عدة.
العفو الملكي تبعه توجيه بتوفير فرص عملٍ للمفرج عنهم، كي يتمّ تأهيلهم للاندماج في المجتمع، وأن تُصرف لهم مكافأة مالية أثناء تدريبهم وبحثهم عن الأعمال.
هذه الخطوة أتت بالتوازي مع برنامج "السجون المفتوحة" وبرنامج "العقوبات البديلة"، وهي إجراءات نظامية تقوم بها الحكومة البحرينية تجاه عدد من الموقوفين والمحكومين ممن تنطبق عليهم الشروط؛ ما سمح لعدد من المحكومين بالاستفادة منها، والخروج الجزئي أو الكلي من السجن، والعودة إلى عائلاتهم، والانخراط مجدداً في المجتمع، والهدف أن يشارك هؤلاء بإيجابية في الخدمة المجتمعية والمسؤولية الوطنية.
في أيار الجاري، احتضنت البحرين القمة العربية في دورتها الثالثة والثلاثين، ووجّه خلالها الملك حمد بن عيسى آل خليفة، دعوة إلى عقد مؤتمر دولي للسلام، لإيجاد حلول عملية توقف الحرب الدموية في غزة، وتحقق للشعب الفلسطيني دولته المستقلة على حدود العام 1967 وعاصمتها القدس الشرقية.
هذه الخطوات أعقبتها زيارة قام بها وزير الخارجية البحريني عبد اللطيف الزياني إلى العاصمة الإيرانية طهران، الأربعاء 22 أيار، وذلك بـ"تكليف من جلالة الملك المعظم"، وفق وكالة أنباء البحرين، وذلك لـ"نقل تعازي ومواساة" الملك حمد بن عيسى آل خليفة، وولي عهده الأمير سلمان بن حمد آل خليفة، في وفاة الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي ووزير الخارجية حسين أمير عبد اللهيان والوفد المرافق لهما.
في اليوم التالي، الخميس 23 أيار، أتت مبادرة الملك حمد بن عيسى آل خليفة تجاه إيران والعلاقات الحسنة معها، وهو في ذلك اختار توقيتاً مناسباً، أتى ليكون تتويجاً لجهود التهدئة التي تقوم بها المنامة، على أكثر من مسار، كما اتضح أعلاه.
هذه المبادرة البحرينية يُنتظر أن تتعامل معها إيران بجدّية، وتصافح اليد الممدودة للسلام، وأن تمضي في حوار جدّي ومباشر، يرسم خريطة طريق للمرحلة المقبلة، تقوم على مبدأ احترام سيادة الدول، وعدم التدخّل في الشؤون الداخلية، وتوقف "الحرس الثوري" الإيراني عن تقديم الدعم اللوجستي والمادي والإعلامي لجماعات مناوئة للنظام في البحرين. وهذه الخطوات إذا تمّت ستؤسس لعلاقة مستقبلية بنّاءة بين البلدين، ستكون في مصلحة الشعبين ودول الخليج العربي.
حديث وزير الخارجية الإيراني المكلّف علي باقري كني عن أن سياسات بلاده البنّاءة تجاه دول الجوار "ستستمر بقوة"، وأن هذه السياسة "تعتمد عقلانية استراتيجية"، يقتضي أن تتجاوب طهران مع مبادرة المنامة، خصوصاً أن العلاقات الحسنة التي تُبنى منذ فترة عبر خطوات تراكمية بين إيران من جهة والسعودية والإمارات ومصر من جهة ثانية، من المنطقي أن تُستكمل بدبلوماسية تواصلية مع البحرين. فهل تستكمل إيران انفتاحها بجدّية وشفافية ومن دون معايير مزدوجة تجاه محيطها الخليجي والعربي، أم أنها ستكون أكثر تحفظاً أو تشدّداً بهدف تحقيق مكاسب ما تعتقد أنها من الممكن أن تحصل عليها؟ فيما المنامة سترفض أي إملاءات أو شروط تتعلق بملفات داخلية تعتبرها من صميم سيادتها الوطنية التي لا يحق لأحد المساس بها، وأن الحكومة البحرينية وحدها مع مواطنيها هم من يقررون كيفية العمل عليها والتوصل إلى تصورات مشتركة وحلول وطنية – توافقية بشأنها من دون تدخّلات خارجية!