السؤال الشاغل بعد مقتل الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي ووزير خارجيته حسين أمير عبد اللهيان، ما تأثير تلك الهزة السياسية في الداخل والخارج؟
وقد أجاب النظام الإيراني سريعاً بأن لا هزة وقعت إلا الحزن على هذين الرجلين اللذين وصفهما المرشد الأعلى علي خامنئي بأنهما "لا يعرفان معنى التعب"، أي إنها هزة وقعت في عمل السلطة التنفيذية فحسب، وليس في استراتيجية النظام الحاكم داخلياً أو خارجياً.
كان خامنئي قلقاً من وقوع اضطرابات أمنية فطالب الشعب بـ"ألا يقلق" لأنه "لن يكون هناك أي اضطراب في عمل البلاد"، ودعاه الى الخروج الى صلاة التوسل من أجل نجاة الرئيس. وكان الأمر حقيقةً استنفاراً لأنصار النظام لاستعراض حضورهم وحجمهم للتصدي لأي اضطرابات قد تحدث، وخصوصاً أن رئيسي لم يعالج أزمة الحجاب التي صنعت شرخاً مع الأجيال الجديدة، والنظام لديه تخوف من لحظةٍ قد يحدث فيها فراغ مفاجئ في السلطة أو أن يتم إعلان وفاة المرشد الأعلى.
وفي يوم تشييع جنازة رئيسي في طهران، الأربعاء 22 أيار (مايو) الجاري، استغل خامنئي الحضور الشعبي المهيب ليؤكد تماسك نظام ولاية الفقيه، إذ كان الخارج يتساءل ماذا بعد؟
قال علي باقري كَني، الذي تولى حقيبة الخارجية إن "إيران ستواصل دعم فصائل المقاومة، وسياستنا اتجاه دول الجوار ستستمر"، ما يعني أن طهران أرادت أن تقول إن لديها استراتيجية لا تتغير برحيل الرؤساء، حتى أن محمد مخبر دزفولي، الذي تسلم مهمات الرئيس، ذكر خلال لقاءاته مع المسؤولين الأجانب عبارة "السياسة الخارجية الرئيسية للحكومة الشعبية"، وهو تعبير يشير إلى الاستراتيجية التي أطلقتها طهران منذ مقتل قائد "فيلق القدس" قاسم سليماني يوم 3 كانون الثاني (يناير) 2020، إذ كان خامنئي قد شعر بأن النظام مستهدف وأن هناك حاجة إلى الدعم الشعبي لمواجهة الحروب الهجينة، فقام بعد تلك الحادثة بإظهار سليماني وكأنه بطل فارسي يمثل إله الخير ويقاتل من أجل أمته، وقال: "أنحني إجلالاً لما قدمه من أجل مصلحة أمته والمنطقة... وقدرته على إحباط كل المخططات الأميركية غير المشروعة".
وبالتالي فإن أي حكومة مقبلة يتحتم عليها الالتزام بتلك الاستراتيجية التي صاغها بيت المرشد الأعلى الى جانب مجلس الأمن القومي ومؤسسات صناعة القرار في إيران.
اختبار للاستراتيجية الجديدة
كان تعطل حكومة إيران اختباراً للاستراتيجية التي أطلقتها عقب نهاية ولاية الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، إذ وجدت طهران نفسها مرغمة على مواجهة الاستراتيجية الأمنية والاقتصادية التي أطلقتها إدارته في المنطقة تحت مفهوم "الاتفاق الإبراهيمي"، ولذلك جاءت حكومة رئيسي لتعلن في المقابل استراتيجية "الأولوية لدول الجوار".
وقد دلت "دبلوماسية العزاء" ومشاركة وفود من القاهرة والرياض وأبو ظبي والمنامة والكويت في مراسم وداع رئيسي، على أن استراتيجية إيران قد نجحت، وإن كانت لا تزال تحافظ على دبلوماسية الميدان، لكنها أشارت إلى رغبة مشتركة في نجاح العلاقة بين الطرفين الإيراني والعربي، فتصريح ملك البحرين حمد بن عيسى بـ"إيران مع البحرين (عليهما معاً) أن يحلّا مشاكلهما... وما في مشاكل في الواقع" ليس بالأمر البسيط، بخاصة أنه لطالما تم اتهام إيران بزعزعة أمن مملكته.
هذا التصريح الذي أطلقه قائد دولة لديها تطبيع مع إسرائيل وتستضيف قيادة الأسطول الأميركي الخامس، يدلّ على أن دول الخليج باتت لديها رؤيتها الخاصة التي تجاوزت خريطتي ترامب وبايدن، فهي اليوم لا تقبل أن تتحول إلى درع بشرية وحائط صدّ ناري بين إيران وإسرائيل، فإن كانت إيران الأقرب جغرافياً، وهو ما يعظم خطورتها على أمن تلك الدول، لكن هذا لا يعني أنها تسمح لأحد بأن يفاقم عليها تلك المخاطر!
رهان بايدن
ثمة اختبار أيضاً لاستراتيجية بايدن حيال إيران التي تراهن على أولوية الدبلوماسية لحل الأزمة النووية، والتي راهنت على نجاح ذلك إذا ما توحد طيف التيار السياسي الحاكم في إيران، فقد انتظر بايدن منذ فوزه في كانون الثاني (يناير) 2021، فوز رئيسي في آب (أغسطس) 2021، ليطمئِن إلى إمكان التوصل الى اتفاق مع طهران، وهو ما ظهرت جديته بالتوصل الى اتفاق موقت غير رسمي في أيلول (سبتمبر) 2023.
وإن كانت هناك دوافع للتشكك في وجود مؤامرة للتخلص من رئيسي، فهي تلك النقطة، إذ إن المتربحين من العقوبات والقلقين من أي تعديل في سلوك إيران يشغلهم تعطيل التوصل الى اتفاق مع واشنطن.
وبالنسبة إلى الأطراف الخارجية التي ترغب في رحيل إدارة بايدن، فإن فشل محادثاته مع طهران، ينزع فتيل القنابل التي كان يستعد لإطلاقها في وجه منافسيه في الانتخابات الرئاسية. فدولة مثل إسرائيل ترغب في رحيله لا تستبعد محاولتها إفشال تراتبية بايدن في المنطقة، بخاصة أن محادثات عُمان السرية قيل إنها اشتملت على نقاش حول مستقبل بنيامين نتنياهو.
ويمكن القول، إن تكتيك إيران البطيء (خطوة تقابلها خطوة) في إدارة استراتيجيتها (أولوية الحوار) يمثل فرصة لمَن يريد وضع عصا في العجلة، لكن طهران لا تزال تراهن على تلك الاستراتيجية في كسر عزلتها السياسية والاقتصادية.