يتميز مجلس النواب في العراق بصبغته الدينية، المعلنة غالباً والمستترة أحياناً. الغالبية من أعضائه تمثل كتلاً وأحزاباً وميليشيات لا تجد حرجاً في إعلان اكتفائها بالعقيدة في ممارسة عملها السياسي بدلاً من البرامج السياسية أو الخدمية التي لم تعد ملزمة للعمل السياسي في العراق. خدمة العقيدة والتسلح بأعرافها وإشهار طقوسها والتلويح بها طائفياً هي عوامل لتزجية الوقت، في زمن بات العراقيون على يقين كامل من أن ما يجري في الخفاء لن يحقق نقلة في حياتهم. أكثر من عشرين سنة من التجربة المريرة كانت كافية لنشر شعور بالإحباط واليأس لا مفر منه. ما تفكر فيه الطبقة السياسية شيء وما يفكر فيه الشعب هو شيء آخر. فالطبقة السياسية لها أجندة عقائدية محددة هي عنوانها الانتخابي، فيما يقف الشعب أمام تل من مشكلات الفقر والبطالة وسوء التعذية والأمية والمشكلات الصحية وخدمات البنية التحتية المنهارة. لذلك لا قيمة بالنسبة إلى الشعب أن يقر البرلمان على سبيل المثال عطلة ليوم الغدير ويلغي في المقابل عطلة 14 تموز (يوليو)، وهو اليوم الذي تحول فيه العراق إلى النظام الجمهوري. ويوم الغدير مناسبة دينية تعيدنا إلى فصول الفتنة الكبرى التي بدأت منذ أكثر من ألف وأربعمئة سنة. وليس غريباً أن تقع تلك المسافة بين العراقيين والطبقة السياسية التي يُفترض أنها تمثله في البرلمان. ذلك لأن كل الانتخابات التي جرت في العراق منذ عام 2005 كانت تحوم عليها شبهات التزوير وشراء الأصوات، إضافة إلى أن سلطة الاحتلال الأميركي فرضت على العراقيين الأحزاب الدينية حلاً وحيداً. بمعنى أن الخيار الديموقراطي في العراق هو أشبه بغرفة مغلقة.
التمييز الطبقي في ظل الديموقراطية
في عام 2019 فوجئت الطبقة السياسية التي سُلمت لها مقاليد الحكم في العراق والطرفان اللذان يدعمانها، الولايات المتحدة وإيران، بأن استمرار نظام الحكم وفق صيغة المحاصصة الحزبية تحت غطاء طائفي يمكن أن ينتهي بعدما اتسعت الهوة ما بين أحزاب، صارت تدير مصالحها من خلال قنوات الدولة، وبين شعب يرغب في إعادة الدولة إلى وظيفتها الحقيقية التي تنحصر في خدمته وتصريف شؤون حياته، ناهيك بخلاف جوهري حول الثروة، كان الفساد قد عمّق أسبابه. فبدلاً من أن تكون الثروة عنصر ارتقاء بالمجتمع إذا ما وزعت بطريقة عادلة أو تم استثمارها في مشاريع تنموية، صار احتكارها من الأحزاب عاملاً لدفع فئات واسعة من الشعب إلى ما تحت خط الفقر، بحيث صار التباين واضحاً بين طبقة حصلت على امتيازات غير محدودة بسبب انتماء أفرادها إلى الأحزاب أو قربهم منها، وبين طبقة محرومة من أي امتيازات، وهو ما أفقدها القدرة على الحصول على الخدمات الأساسية التي هي من حق أي مواطن في دولة ثرية. وفي المسافة بين الطبقتين اختفت الطبقة الوسطى التي تعرض أفرادها إلى التهميش.
كانت الاحتجاجات التي شهدها العراق عام 2019 إعلاناً صريحاً عن أن الديموقراطية التي هبطت بالمظلات الأميركية كانت قد وُظفت لإنتاج نوع من التمييز الطبقي لم يشهده العراق إلا في زمن ساد فيه نظام الإقطاع المتخلف. حدث ذلك في ظل اتساع دائرة الفساد وغياب الرقابة كلياً وحماية الحزبيين من العقاب.
حكومة لا تحتاج إلى قاعدة شعبية
ورغم ضعف الإقبال الشعبي المتزايد على الانتخابات التشريعية والبلدية، فإن النظام السياسي ظل يعيد إنتاج مؤسساته التي يستمد منها شرعيته بناءً على نتائج تلك الانتخابات. بعد أكثر من عشرين سنة لا تزال الولايات المتحدة تراهن على نجاح التجربة الديموقراطية التي اخترعتها في العراق وهو رهان ينطوي على الكثير من النفاق السياسي، ذلك لأنه في حقيقته محاولة لتثبيت نظام سياسي لا يمكنه سوى أن يبني دولة فاشلة وذلك هو هدف الغزو الأميركي. أما بالنسبة إلى إيران، وهي الداعم الآخر لذلك النظام، فإنها الطرف المستفيد من وجوده، لا لأنه وضع إيرادات العراق المالية في خدمة اقتصادها فحسب، بل لأنه أيضاً جعل من العراق مجالاً حيوياً لمشروع هيمنتها على المنطقة من خلال الميليشيات التي صارت جزءاً من بنيته السياسية. في ظل ذلك الدعم المزدوج، فإن الأحزاب الحاكمة لا ترى ضرورة لتوسيع قاعدتها الشعبية. لقد ألغيت مجالس المحافظات بناءً على مطالب المحتجين كونها مؤسسات فائضة، صنع وجودها فرصاً لفساد، كان يمكن تفاديه. غير أن النظام سرعان ما عاد إلى تفعيل تلك المؤسسات ضارباً عرض الحائط بكل تعهداته. وعلى العموم فإن شيئاً من مطالب المحتجين لم يجد الطريق أمامه سالكة رغم أنها لم تكن مطالب عسيرة التنفيذ. وإذا ما كانت حكومة مصطفى الكاظمي وهي التي أنقذت النظام من السقوط قد تخصصت بإطلاق وعود، فشل رئيسها في تنفيذها، فإن حكومة محمد شياع السوداني الحالية لم يكلف رئيسها نفسه تحمل مسؤولية وعود، يثق بأنه لن يضطر لاسترضاء الشعب من خلالها. لا لشيء إلا لأن تحالف الإطار التنسيقي الذي يدعمه هو في غنى عن أي دعم شعبي.
السقوط في بئر الماضي
ليس مفاجئاً أن تنحصر مهمة مجلس النواب في إقرار القوانين التي لا تمس الحياة اليومية للعراقيين. فذلك المجلس يمثل من خلال أعضائه مصالح وأجندات أحزاب لا علاقة لها بالحياة المدنية. من المعروف أن المنطلقات النظرية للأحزاب الدينية لا تنص على بناء دولة خدمية قائمة على مهمة تصريف الشؤون الدنيوية. غير أن الجهل كان قد أعمى أعين الكثيرين عن رؤية تلك الحقيقة. لقد اعتقد البعض أن الذهاب إلى الآخرة يمكن أن يمر من خلال حياة رفيعة المستوى. ذلك خطأ وقع فيه العراقيون بعدما آمنوا بنبوءات ذوي العمائم الذين لم يبخلوا عليهم برواية المعجزات. ما تمت سرقته من أموال العراقيين عبر العشرين سنة الماضية كان في إمكانه أن يجعلهم من أغنى الشعوب، غير أن النظام السياسي، وقد وضع المرويات التاريخية في خدمة دعاياته، كان قد ألقى بهم في بئر ماضيهم الفقير بعيداً عن حاضرهم الثري.